إن المتتبع لواقعنا العربي قبل الإسلام وبعده يجد أنه عاش ولايزال يعيش حالة من الضجيج المتواصل المتجذر المتوارث عبر الأزمنة المتتالية والأمكنة المختلفة باستثناء عصر النبوة الذي يعد معصوماً بعصمة سيدنا وحبيبنا محمد بن عبدالله الذي اتسم بتوحد التعليمات والتوجيهات السماوية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وباستثناء عصر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم الذين عاشوا والتزموا بتلك التعليمات الربانية كما جاءت دون تعديل أو تبديل أو سد ذرائع أو فتحها وباستثناء مرحلة يسيرة في عمر الزمن من العصر العباسي الذي استطاع أن يتعامل مع تلك التعليمات والتوجيهات وفق منظور إبداعي تطبيقي مرن ووفق عقليات مستوردة كان لها تجارب متجددة مبدعة من حضارات سابقة أما ما عدا ذلك فإن الحال متشابه والقضية التي هي الجعجعة الخلافية المتشعبة لاتزال قائمة بل تزداد تأزماً عصراً بعد عصر ومرحلة بعد أخرى وكم هي الشواهد المؤكدة لتلك الحالة كثيرة وكثيرة أنطلق البعض منها من كتاب الله الكريم الذي حث على الالتزام بتلك التعاليم دون تغيير وتبديل وفق الرغبات الخاصة كما في قوله تعالى: ((إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)) الرعد آية 11. وحرص رسولنا الحبيب على الالتزام بسنته وعدم الكذب عليه كما في قوله صلى الله عليه وسلم (إن كذباً علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) رواه البخاري ومسلم. وبإسقاط تلك التوجيهات الربانية والنبوية على واقعنا العربي نجد أن حالة التغيير طالت الشيء الكثير من الأنفس طمعناً في الجاه أو المال أو الحقد والكراهية فبدلت التعليمات والتوجيهات الربانية لتحقيق أغراض شخصية أو مؤسسية وابتدعت الكثير من الأحاديث المكذوبة لنفس الأغراض السابقة وهكذا حدث الكثير من التغيير واستمر حدوثه فترتب على تلك المخالفات العظيمة حالة من الخلافات الكلامية المتشعبة حتى أصبح ما هو حلال اليوم حرام غداً وماهو حرام غدًا حلال بعد الغد وماهو عادة أو تقليدًا اليوم حكمًا شرعيًا غدًا والمعروف اليوم يصبح منكرًا غدًا وهكذا اتخذت التعاليم الشرعية سبل حرب للوصول إلى أغراض شخصية فاستخدمتها الدول قبل الأفراد وهكذا تبدلت الحال فأصبحنا أمة مفقودة الهوية لا نعلم حلالنا من حرامنا وواجباتنا من حقوقنا بعد أن تجاذبتنا الأيدي وأضاعة طريقنا الشعارات الفضفاضة المتغيرة حسب الأحوال والظروف فتجذرت تلك الحالة حتى أصبحت حالات فردية نسمع من خلالها جعجعة ولا نرى طحيناً فتقدمت الأمم من حولنا وسارت وفق خطط منظمة منتظمة المسار فارتقت وارتقى شعوبها وأنتجت وانتجت شعوبها أما نحن فلازلنا حبيسي الجعجعة ومقيدي المسار فتحولنا إلى شعوب متصارعة متناحرة متباغضة ليس لنا غاية نسعى لتحقيقها ولا رؤية مستقبلة واضحة المعالم مستدامة الزمان والمكان وكم هو حزني عظيم كالملايين غيري ممن ينظرون إلى ذلك الواقع المزري الذي نعيشه ونتوارث حالته في ظل هبة عظيمة وهبنا إياها رب العالمين ألا وهي التعاليم السمحة لشريعتنا الغراء التي تدعو إلى التفكير والتدبر والتأمل والإبداع وتحث على العمل والإنتاج وتحث على الالتزام بالقيم الفاضلة والمبادئ السامية فأهملنا كل ذلك وتركنا للأمم الأخرى الالتزام بها وتفرغنا نحن للجعجعة وإثارة البلابل وإشعال الفتن والخلافات. ولعل أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله قد استشف تلك الحالة المزمنة فوصف ذلك شعراً في قوله: إلام الخلف بينكم الاما وهذه الضجة الكبرى علاما وفيم يكيد بعضكم لبعض وتبدون العداوة والخصاما.