* أتذكر قبل أكثر من عشرين عاما، وأنا في زيارة خاصة لجدتي لأمي رحمها الله فيما كان يسمى سابقا (مستشفى الأمراض الصدرية) بالطائف، وأتذكر جيدا ما حكته لنا تلك المرأة المسنة قبل يوم من زيارتنا لها، حيث ذكرت أن المستشفى انقلب رأسا على عقب، نظافة وترتيبا وعناية بالمرضى، كانت الممرضات الوافدات يرددن بلكنة مكسرة: قصيبي قصيبي! اكتشفنا فيما بعد أن وزير الصحة آنذاك الدكتور غازي القصيبي قام بزيارة مفاجئة للمستشفى ليقف بنفسه على مستوى الخدمات الصحية التي تقدم للمواطن، دون أن يحتاج إلى تقارير مخاتلة أو أخبار مداهنة أو مندوبي (كل شي تمام). * فالدكتور غازي القصيبي لم يكن مجرد وزير عابر على الحقائب الوزارية التى تولاها، ولا مسؤول بيروقراطي يصدر الأوامر ويوقع الأوراق ويعتمد المشاريع ويستعرض بجولاته وصولاته الورقية! بل كان مواطنا قبل أن يكون وزيرا، وكان إنسانا قبل أن يكون مسؤولا.. كيف لا؟ وهو الشاعر الحقيقي بهموم مجتمعه، وهو المفتون بالأدب الذي كتب في الشعر والسرد والسياسة والإدارة والحياة.. وكان من رواد الروائيين السعوديين. * لم يكن غازي القصيبي وزيرا للكهرباء والماء ذات زمن مظلم ومجدب فحسب، بل كان مضيئا بحضوره الأدبي والشعري في كل المحافل والملتقيات، ممطرا بوطنيته الحقيقية. * تولى زمام وزارة الصحة، فأنشئت المستشفيات الضخمة والتخصصية وافتتحت المجمعات الطبية بكافة تخصصاتها، واستعادت البلاد عافيتها. * كان سفيرا للحب والعشاق والنوارس البيضاء قبل أن يكون سفيرا لبلاده في البحرين ولندن.. * تولى وزارة العمل وهو محفوف بالأمل.. ولكن بعد انتشار تجار التأشيرات وانفجار السكان بأعداد مهولة من العاطلين والعاطلات، التي تخرجهم كليات الجامعات النظرية، فاصطدم بلؤم الظلاميين من جهة، ولوم المحبين من جهة أخرى.. فتحولت بيئة العمل إلى شقة مفروشة يسكنها الوافدون والعاملون عليها والمؤلفة جيوبهم.. ويتعارك فيها المتنفذ البرغماتي مع الوطني النزيه! * رجل شجاع على مستوى الحق، جمع بين دهاء السياسي ونجومية الأديب في مفارقة قل أن تتحقق في كاريزما واحدة، فكان من أوائل الذين تصدوا للمتطرفين إبان قوة شوكتهم بكتابه الشهير (حتى لا تكون فتنة)، فكانت حياته سلسلة من الصراعات الفكرية والسياسية والأدبية. * رحل غازي القلوب، الرمز الوطني الحر.. رحل غازي القصيبي رجل التنمية والتغيير وهو متمسك بوزارة (الأمل).. ويكفي!