صدر الديوان الرابع لمحمد الثبيتي، بعد ما يقارب 20 عاماً، من صدور ديوانه الثالث، الذي لم يبتعد عن زمن صدور الديوان الأول بأكثر من 5 سنوات. فقد صدر ديوان «موقف الرِّمَال» عام 2005م، مجتازاً مسافة زمنية طويلة من الصمت الشعري، ومعلناً أن الشعر لم يزل حياً، وأن «المسافر العربي» مازال يشير إلى البعيد متلهفاً إلى الرحيل وإلى ميلاد زمن جديد. وأتصور أن مسافة الصمت تلك مؤشر دلالة على صدقية الرؤية الشعرية التي انطوت عليها الدواوين الثلاثة الأولى، أعني الرؤية التي تبدأ فجيعتها بنوم القافلة في مواجهة رغبة الرحيل لدى (المسافر)، وتتوالى إحباطاتها في فلك التيه، والزمن المتحجر، والصحراء الطاعنة في السراب، والمدن التي مزق الطلق أحشاءها وتقيَّح تحت أظافرها الماء، كما أخبرنا (البشير) والخَدَر المنساب من ثدي السفينة، في رؤيا (العراف)، وتساقُط الظلام من حول البابلي ومعاناة الصداع والزمن العاقر والقرية الأرملة. والصراخ ل(كاهن الحي): «ما أبعد الماء.. ما أبعد الماء!»... إلخ. لهذا كان استهلال «موقف الرمال» بعد ما يقارب 20 عاماً من الصمت، ب «تحية لسيد البيد»: سَتَمُوتُ النُّسُورُ التي وَشَمَتْ دَمَكَ الطفلَ يوماً وأنتَ الذي في عروقِ الثرى نخلةٌ لا تَمُوتْ مَرْحَباً سَيَّدَ البِيدِ.. إنَّا نَصَبْنَاكَ فَوقَ الجِرَاحِ العَظِيمَةِ حَتَّى تَكُونَ سَمَانَا وصَحْرَاءَنَا وهَوانَا الذِي يَسْتَبِدُّ فَلاَ تَحْتَوِيهِ النُعُوتْ وتمضي القصيدة على هذا النسق من الترحيب بسيد البيد والتحية لحياته. و»سيد البيد» هذا هو عراف الرِّمال، وكاهن الحي، والبشير، والصعلوك، والمغني، والبابلي، وهو المسافر العربي، وعنترة الذي يموت على الطرقات، مثخناً بالجراح والهزائم، ومُهْرُه على شاطئ الزمن العربي يلوك العنان. إنه الذات التي تمثِّل الشاعر، وتؤول إليها أقنعته ومراياه التي تغدو إياه بقدر ما يغدو إياها، في تولُّد الرغبة والتصادم مع ما يعوقها. وقد اجتمعت لسيد البيد هنا، صفات الحيوية والنماء والأصالة والعلو والاتساع والإضاءة والجمال والحب، من خلال الدلالة عليه بالطفل، والنخلة التي لا تموت، والسماء، والصحراء، والأغنية في حلوق المصابيح، والهوى، والطرقات التي استكانت لخطوته، والنوافذ التي ألقت عليه دفء البيوت. ولا يتكرر شيء من صفاته عدا نفي الموت عنه، وذلك في مطلع القصيدة الذي يغدو لازمة لمقاطعها الثلاثة، مع تنويع الاسم التي يمثل صفته ويغدو موضوعاً لنفي الموت والدلالة على الحياة في سطرها الثاني: « نخلةٌ لا تَمُوتْ» « أغْنِيَةٌ لاَ تَمُوتْ» «هَوىً لاَ يَمُوتْ». إن الاحتفال بالحياة والتأكيد عليها هو محور دلالة هذه القصيدة، وهو محور يتخذ من الذات التي يمثل عاملَها «سيدُ البيد» موضوعاً لهذه الحياة بما يجعل الاحتفال بالحياة احتفالاً بالمعاني الذاتية في الكائن، معاني فرديته وحريته واستقلاله. ومؤكدا أن العلاقة بين هذه المعاني الذاتية والشعر –وخصوصاً إذا تذكرنا رؤية الثبيتي للشعر في هوامشه على أوراق الخليل، وفي غيرها في ديوانه الأول - هي علاقة أنطولوجية؛ فلا شعر بلا ذاتية، وهو المعنى نفسه الذي يعادل العلاقة مع الإنسان، فنفي الذاتية هو نفي للإنسان مثلما هو نفي للشعر. وهذا مؤدى يصل الذاتية التي يمثلها سيد البيد بالفعل الإنساني فعل المعرفة والفن والحياة. لهذا كانت الرغبة التي يغدو بموجبها «سيد البيد» ذاتاً هي الرغبة في الحياة، والرغبة عن الموت. وهي إجابة تمرُّد على الصمت، بحيث تغدو سنواتُه العشرين دلالةَ مقاومة وثبات. وتزداد معاني المقاومة والثبات هذه في قصائد الديوان بعد ذلك، لاسيما مطولته التي اجتزأ الديوان اسمه من عنوانها: «موقف الرمال موقف الجناس». وهي قصيدة رؤيوية تحيل على طاقة الكشف والتجلي التي يوظف الثبيتي رمزيتها للدلالة على اللا معقولية واستعصاء الواقع على الفهم وغموضه وإعتامه أمام الرؤية. ويستثمر الثبيتي في هذا الصدد لازمة شيخ الصوفية الشهير النفري، في مواقفه، «أوقفني وقال « ثم تكرار فعل القول بعد ذلك: ضَمَّنِي، ثُمَّ أَوقَفَنِي فِي الرِّمَالْ ودَعَانِي: بِمِيمٍ وحَاءٍ ومِيمٍ ودَالْ واسْتَوى سَاطِعَاً فِي يَقِينِي، وقَالْ: أَنْتَ والنَّخْلُ فَرْعَانِ أَنْتَ افْتَرَعْتَ بَنَاتَ النَّوى ورَفَعْتَ النَّواقِيسَ هُنَّ اعْتَرَفْنَ بِسِرِّ النَّوى وعَرَفْنَ النَّوامِيسَ إن موقف الرمال هو موقف معرفة وتجل وإبصار، وهي معرفة شعرية تحيل على البصيرة والحدس الداخلي، أي على القوة الداخلية التي تستمد منها الرؤية ما يجاوز الحسية إلى المعنى. والرمال هنا دلالة على الواقع في حين يدل الجناس على الشعر، وبهذا تنعقد العلاقة بينهما على الرؤية والكشف والتجلية وهي أفعال الشعر تجاه الواقع الذي يقابلها بالخنق والقذف والتعتيم والمصادرة، وقد نال الثبيتي –فعلاً- منها جميعاً ما جعله يلتزم الصمت طوال تلك السنوات التي تقارب العشرين. ولهذا تنبض هذه القصيدة وغيرها من قصائد الديوان بتمجيد «سيد البيد» الذي هو هنا المنادى « بِمِيمٍ وحَاءٍ ومِيمٍ ودَالْ» وهو ضمير المتكلم الذي يقول في القصيدة نفسها: «وأمرُّ ما بين المسالكِ والمهالكِ/ حيث لا يمٌّ يَلُمُّ شتات أشرعتي/ ولا أفقٌ يضم نثار أجنحتي/ ولا شجرٌ/ يلوذُ/ به/ حَمَامي». وينتشي بالخوف، ويجوب بيداء الدجى أرِقاً وظامِي... إلخ. ومؤدى الحديث عن هذه العذابات الانتشاء بالثبات، وتعميق دلالة الزمن العاقر والقافلة النائمة، التي لا تنفك عن لهفة الشوق إلى زمن جديد يرحل فيه المسافر العربي إلى حبيبته وراء السديم وعلى ضفاف الضوء. لكن العوائق تتجدد وعذابات الذات التي تتسمى بأكثر من اسم وتتقنع بكل الضمائر، تزداد إشكالاً وتفاقماً: فِي سَاحَةِ العَثَرَاتِ مَا بَينَ الخَوارِجِ والبَوارِجِ ضَجَّ بِي صَبْرِي وأَقْلَقَنِي مُقَامِي فَمَضَيتُ لِلْمَعْنَى أُحَدِّقُ فِي أَسَارِيرِ الحَبِيبَةِ كَي أُسَمِّيَهَا فَضَاقَتْ عَنْ سَجَايَاهَا الأَسَامِي أَلْفَيتُهَا وطَنِي وبَهْجَةُ صَوتِهَا شَجَنِي ومَجْدُ حُضُورِهَا الضَّافِي مُنَايَ ورِيقُهَا الصَّافِي مُدَامِي هذه المنطقة البينية التي تقيم فيها الذات، وتتخذ حدَّيْها هنا من الخوارج والبوارج، هي مكان الذات الذي تضعه فيه القصيدة، إنها المسافة بين حصارَيْن، وبين الرغبة والاضطرار، والفعل وضده، بين «زمن الفرح المتجهِّم والانتظار» و»بين تهجي الحلم وتهجي الوهم» والليل الطويل والعمر القصير، «بين الهوى والخناجر/ بين الأصابع والنار» «بين ليل كئيب ويوم عبوس». إنها منطقة الاجتماع على الماء والانقسام عليه في شكوى القافلة لكاهن الحي، وملتقى الشاطِئَينِ الذي تكوَّر فيه البابلي، والزمن المتقابل الذي يؤرق المغنِّي. وهي رؤية أساسية في مجموع شعر الثبيتي تجاه العالم، لكنها مصدر عذابات الذات ومعاناتها لديه، إنها المنطقة التي تعاني فيها الذات من الحبس بين الشوق للحبيبة والعجز عن الوصول إليها، وهي منطقة التردد والحيرة التي تكررت صورة فلك التِّيه ومشتقاته ولوازمه التي تقترن بالليل والظلام والضباب والسراب والصحراء والرمال والظمأ... إلخ معمِّقة دلالة الإعاقة والضدية التي تواجهها رغبة الذات. ونصل أخيراً إلى ديوانه «بوابة الريح» (2009م) والريح هنا دلالة على الرغبة التي تنطوي عليها الذات في شعر الثبيتي، ووجه من وجوه تحولاتها، والدلالة عليها. والريح –إجمالاً- رمز للقوة والتغيير والإخصاب وتوقُّع الخير، وهي رمز ملحّ للدلالة على الثورة والتحرير في شعر القضية الفلسطينية، وخصوصاً شعر فدوى طوقان ومحمود درويش وسميح القاسم، وترد بمعنى التغيير والثورة في شعر الشابي ونازك الملائكة والسياب والبياتي وسعدي يوسف وخليل حاوي... وغيرهم. ولفهد الخليوي، صديق الثبيتي الحميم، قصة بعنوان «الرياح» تحمل خصوبة مجازية رمزية في اختلاط الدلالة بها على الحياة والموت والبشارة والخوف. وهي المعاني نفسها المتداولة في الشعر عالمياً كما في قصيدة شيلي (قصيدة للريح الغربية Ode to the West Wind) التي يدعو فيها إلى حدوث ريح شديدة تجعل الطبيعة عاجزة عن الوقوف أمامها. وذلك تعبير عن التوق إلى حدوث تغيير للعالم كله، والحلم بنهضة إنسانية، وحدوث ولادة جديدة بالمعنى الذي يستمد من الذاكرة الأسطورية لما تحمله الرياح من تغيير. ولا تختلف دلالة الريح عند الثبيتي عن ذلك، ففي قصيدته التي يحمل الديوان عنوانها «بوابة الريح» يسأل الليلُ الشاعرَ عن بوابة الريح: «ما بوابة الريح؟» فيجيبه: إلَيكَ عَنِّي فَشِعْرِي وحْيُ فَاتِنَتِي فَهْيَ التي تَبْتَلِي وهيَ التي تُوحِي وهيَ التي أَطْلَقَتْنِي فِي الكرَى حُلُماً حتَّى عَبَرْتُ لهَا حُلمَ المَصَابِيحِ وهذا يعني أن الريح هنا متصلة الدلالة بالرغبة التي تؤشر على الشوق إلى فاتنته، فشعره وحي منها وحُلُم بها. ولا شك أن الليل السائل هنا عن بوابة الريح هو مسافة البعد عنها والإعاقة لها، وهو، كنوم القافلة تماماً وسائر الإشارات التي تصور يباب الصحراء وسرابها وزمنها العاقر، موضوعٌ ترغب الذات عنه، كما هو منطوق العبارة الموجَّهَة إلى الليل هنا: «إليكَ عني». والمؤدى الذي تصلنا به رغبة الذات المشرعة على بوابة الريح عند الثبيتي، والمولعة بفاتنة آسرة بغموضها في مجمل شعره، هو الولادة الجديدة، التي تُحدِثُ للرمال التغيير والنهضة والحرية والنماء فتتدفق بين ضفاف الأضواء، عابقة بشميم العرار ونكهة المطر. إشارة: بعض الاتصالات والرسائل التي تعلق وتتداخل مع ما أكتب، تسعدني وتمدني بنبلها. والصديق الدكتور عبد الله المعيقل يمتعني بالحوار حول ما أكتب عموماً، وكنت سعيداً بمهاتفاته بشأن المقالات عن الجابري وعن المفاهيم وغيرها. أبو تيم عقل مفكر وناقد وذو رهافة إنسانية وإشراق. تعرف تماماً أدبه الجم في أسئلته التي تدلل على التواضع وهي تضيء لك مسافةً إلى الأبعد (مثلُك –يا أبا تيم- يورِدُ الماء! هل تسمعني؟!). كما أمتعني الشاعر أحمد عائل فقيهي بالحديث عن المقالات المتعلقة بشعر الثبيتي وأجيال الشعر الحديث ورموزه. وسعدت بحفاوة الأستاذ الإعلامي عبد الله آل وافية، والأستاذ محمد منسي الزهراني، وموقع الشاعر محمد الثبيتي على الشبكة... وللجميع خالص امتناني وتقديري.