مغادرة المنصب أمر طبيعي ولا غرابة في أن يرحل مسؤول ويأتي آخر , هذه هي طبيعة الحياة عموماً وهذا ما تستوجبه الوظيفة خصوصاً ، بيد أنه يلاحظ على بعض الناس السرعة في إبداء الأحكام على التاركين لمناصبهم - بغض النظر عن سبب الإعفاء - سواء كان عقوبة أو بسبب بلوغه سنَّ التقاعد . إلا أنهم بسبب نظرتهم الخطأ وانتهازيتهم المفرطة لا يتورعون في اختلاق كثير من التهم ، واستعراض القصور الوظيفي والخلل الإداري الذي صاحب مسيرة أولئك المغادرين لمناصبهم ، وعلى وجه الخصوص من يتم إعفاؤهم من المنصب. وتعيين البديل عنهم ، فتأتي المقالات تبجل الجديد وتمتدح قرار التغيير وتنتقد القديم ، تستحضر كل أخطاء الماضي وتضعها في صورة مشوهة ومنظر سيء قبيح ، وكأن الرجل لم يقدم شيئاً يذكر طيلة عمله في منصبه . فلا تلتمس له عذراً فيما حدث حتى لو كان غير مسؤول عن ذلك القصور وتلك الأخطاء ، وأن المسؤولية فيها تقع على رئيسه الأعلى ، أو أنها نتيجة عدم إمكانيات مالية لا يستطيع أن يوفرها فيأبوا إلا النقد الجارح والسخرية والتشفي ، وينتهوا إلى نتيجة واحدة أن الماضي بسلبياته وسيئاته قد ولى ولا عودة له ، وأن هذا المسؤول الجديد سيثمر النجاح في عهده ويؤتي أكله. ويرسمون لوحة جميلة رائعة لما سيكون عليه المستقبل مع المسؤول الجديد . وأكثر ما يقولون تزلفاً وكذباً . وهؤلاء الشامتون والناقدون لم يكونوا بمثل هذه الانتقادات والشماتة أثناء وجود أولئك في مناصبهم بل على العكس من ذلك , فانتقلوا من مادحين إلى قادحين ومن مؤيدين إلى معارضين. إن هؤلاء يتناسون أن التغيير سنة من سنن الحياة الطبيعية ، وأن الإنسان يمر بمراحل من عمره تتغير فيها أشياء وتتشكل فيها صفات وتظهر فيها عوارض وقد قال الله : "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً" فيمر بالإنسان أيام وأعوام يكون فيها سعيداً فتتلوها أوقات يعاني فيها الشدة والمرض ، ويأتي يوم وقد اعتلى منصباً ، فتدور الأيام فيترجل عن ذلك المنصب إلا أن بعض الناس يرى في التغيير الذي يحدث بسبب الإعفاء بل وحتى في حالة الوفاة وتعيين البديل يرى فرصة مناسبة ومواتية للنيل من الراحلين ، فيكيلون لهم التهم المبطنة ويغمزون في قدراتهم وإخلاصهم وضيق أفقهم وسوء خططهم وجمودهم حتى يظن القارئ - من خلال تلك الكتابات - أن المغادرين لمناصبهم تعمدوا الفشل وأنهم لا يريدون النجاح لأنفسهم أو للجهات التي يرأسونها ، وهذا فيه تجنٍّ على الحقيقة ، فليس هناك شخص عاقل لا يريد النجاح في عمله ، وبخاصة إذا كان يشغل منصباً كبيراً ومهماً . ولكن ربما تأتي الرياح بما لا تشتهي سفن ذلك المسؤول فالموارد المالية شحيحة والبطانة غير مخلصة ولها مآرب أخرى غير التي يريدها ويسعى لتحقيقها ، وقد يكون ذلك نتيجة اجتهادات خطأ وقد قيل : إذا لم يكن عون من الله للفتى فأكثر ما يجني عليه اجتهاده والغريب أن هذه الأقلام الوالغة في حبر التشفي والسخرية ذات أقنعة بالية كانت بالأمس تدبج العبارات في مدح الأفعال والأقوال والقرارات والتوجيهات وتتبع الأخبار، والتبرير للهفوات والأخطاء حينما كان ذلك المسؤول له صلاحيته وسطوته ومن حوله مآرب أخرى فانقلبوا بين عشية وضحاها إلى الجانب المظلم في حياة ذلك الرجل . وتغافلت عن الجوانب المضيئة . فمنافعهم لا يمكن اجتلابها من تلك الجهة فتوجهوا إلى جهة أخرى يستجلبون منها منافعهم المادية والمعنوية إلى حين يعلمه الله ثم يعودون القهقرى فيلحقونه بسابقه ويتحولون إلى المسؤول الأحدث وهكذا. في اعتقادي أن مثل هذه الأقلام تعتبر معاول هدم ومن الأسباب الرئيسية التي تعوق النجاح الإداري لأنها لا تدل على مواطن الخلل والقصور في الوقت المناسب ليتمكن المسؤول من تدارك القصور وإصلاح الخلل بل أنها تبرر ذلك ، لتتقرب بذلك زلفى إلى المسؤول ، فإذا غادر منصبه أولغت أقلامها في حبر التشفي والكذب والتضليل حتى ترسخ في ذهن المتلقي أن المسؤول الجديد هو الذي سيأتي بما لم يأتِ به الأوائل . وما ذلك إلا لرغبتها في حجز مكان في اهتمام ذلك المسؤول الجديد لتكون تحت بصره وقريبة من مجلسه لتجني المنافع حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً . اللهم إنا نسألك الهداية في كل أمر والتوفيق على حال.