تواترت الروايات العربية التي تروي عن فضاء سعودي، على تمثيله بصورة صادمة للوعي الثقافي والإنساني. ولهذا كانت تثير أسئلة متوالية عن مدى صدقيتها، وأبعاد تصويرها للمكان، واختلافها عن الروايات السعودية. كما تثير -استطراداً- أسئلة عن تمثيل الروائيين السعوديين للمجتمعات الأخرى، وما ينتج عن هذا وذاك من وعي بمسألة الآخر من حيث هو قرين الوعي بالذات ودليله الذي تكتشف فيه الذات الآخرية والمغايرة بقدر ما تكتشف ذاتيتها. وأحسب أن التفكير في الرواية وغيرها من أصناف الإبداع، بمثل هذه الرؤية التي تعلن الذات في مقابل آخر، أو الآخر في تناوله للذات، يعني توجيه منظور القراءة للروايات إلى ما يؤكد هوية مؤلفيها بوصفهم آخر عن الذات، ويؤكد سيرتهم التي تؤرخ لوعيهم بهذه الذات. وهنا ندلف إلى منظور التمثيلات الثقافية من حيث هي آلية تُنْتِج، بأسباب تاريخية وإيديولوجية وذاتية، صورة الآخر التي تصبح -مع التكرار والاستمرار- نمطية، وتُجاوِز الحقيقة بما تحمِلُه من تعميم مجحف! إن الروايات العربية التي تروي أحداثها في فضاء سعودي، تتشارك في اتصاف راويها وشخصيتها الرئيسة، تماماً كما هو حال مؤلفيها، في الانتماء إلى الدول العربية المختلفة: فلسطين والأردن -مثلاً- في «نجران تحت الصفر» (1976م) ليحيى يخلف، و»الطريق إلى بلحارث» (1982م) لجمال ناجي، و»براري الحمى» (1985م) لإبراهيم نصر الله، ولبنان في «مسك الغزال» (1988م) لحنان الشيخ، ومصر في «البلدة الأخرى» (1990م) لإبراهيم عبد المجيد. كما تتشارك -أيضاً- في اتصاف راويها وشخصيتها الرئيسة، مثلما هو حال مؤلفيها، في قيامه برحلة عمل إلى المملكة وإلى المكان الذي تجري فيه أحداث الرواية تحديداً، بدافع الحصول على المال. وبذلك تبدو هوية المروي له واضحة، بسبب ارتباطه -دوماً- بالراوي وقيام علاقته به بما يتجاوب مع صفاته ووظيفته. وهو تجاوب لا يخلو على المستوى الإيديولوجي من نَفَس ثوري تحرري بوجهة نظر يسارية حيناً، أو بنَفَس قومي أو وطني ولكنه أقل ثورية وأقرب إلى الأسى والخيبة في الذات العربية والوطنية حيناً آخر، خصوصاً وقد كُتِبَت ونُشِرت كلها بعد نكسة 1967م، وأكثرها بعد توقيع السلام مع مصر في أمريكا عام 1979م بزمن يسير، أو مع نشوء فكرته. وهذا التوصيف هو ما تنبني عليه وجهة النظر الروائية فيها، ومن ثم كان المروي فيها جميعاً هو حدث الرحلة إلى المكان السعودي وما واجهه البطل، بوصفه غريباً أو خارجياً أو آخر عن المكان، من اختلاف وتفاوت وما عاشه من ظروف وأحداث وما اختلط به من شخصيات... إلخ. بطريقة من شأنها أن تجسد التجاوب بين صفة الراوي الذي يكون الشخصية الرئيسة فيها غالباً، وصفة المروي له وهو في كل الأحوال كائن في داخل بنية الرواية وليس في خارجها. وهكذا هيمنت على المكان السعودي فيها جميعاً صورة كريهة منفِّرة، لأنها ناتج الاضطرار إلى المكان لا الاختيار (ليست رحلة سياحة، مثلاً) وناتج الاختلاف الذي أحال المروي إلى مدونة لصور المغايَرَة اللفظية والسلوكية وبشكل إعلاني أحياناً. والاختلاف -كما يسجل تودوروف في مسألة الآخر- يؤدي إلى الشعور بالتفوق، بخلاف المساواة التي تؤدي إلى الشعور بعدم المبالاة. وهي صورة لا يمكن تفسيرها إلا بحقيقة التمثيل الثقافي للمجتمعات الأخرى الذي يقوم على الانتقاء والترتيب والتأويل. وتنبني صورة المكان السعودي في تلك الروايات على محاور من ثنائيات متقابلة: الثروة والبؤس، الصناعي والطبيعي، الانفتاح والانغلاق، الظاهر والباطن، المُعلَن والمخبوء، الرجل والمرأة، التسامح والعنف، الألفة والغُربة، الأُنس والضجر، الصحة والمرض، الثبات والتغير، العمل والبطالة، العقل والخرافة، الكلام والصمت، الحرية والعبودية... إلخ. فوجهة النظر هنا تبحث عن مفقود وغائب، وهذا الغياب والفقدان ناجمان عن واقع صادم لها باختلافه عن مثلها الأعلى وعن الصورة الاجتماعية والسلوكية والإيديولوجية المستقرة لديها، وما يحكمها من رغبة وما تترامى إليه من اختيار. هذه الصورة هي التي استدعت -في معظم الروايات المذكورة- عناوين لها تُسَمِّي تصريحاً المكان السعودي أحياناً، وكنايةً أحياناً أخرى، ولكن -في الحالين- بمعنى تقويمي، وتبخيسي، وانتقاصي. ف «نجران تحت الصفر»: جملة مبتدؤها اسم المكان السعودي، وخبرها متعلق إضافة الصفر إلى ما يدلل على السقوط والنزول والسُفْلِيَّة وهو الظرف (تحت). و (تحت الصفر) دائماً هو قياس للحرارة يؤشر على التجمد وبرودة الثلج، وهو معنى مضاد للوجهة الثورية التحررية اليسارية التي تمثلها وجهة النظر في الرواية. و «براري الحمى» تشير بالكناية إلى ما يشير إليه بالتصريح متن الرواية، وهي منطقة العِرْضِية الجنوبية وفيها بلدتا (ثريبان) و(سبت شمران) من توابع محافظة القنفذة. وقد كانت الحمى ولازمها وملزومها مركزَ أحداث الرو اية وبؤرة تداعي معانيها وأحداثها. وهي البؤرة نفسها التي تتداخل فيها مع رواية «الطريق إلى بلحارث» وهي -أيضا- من قرى القنفذة، فالموت الناتج عن الحمى هو مفتتح هذه الرواية الأخيرة وخاتمتها التي يغادر فيها الراوي- البطل بلحارث مع جثة زميله، ولذلك فعناونها يوحي بدلالة النفور بما تتضمن الحكاية عن الطريق إلى مكان ما من مغامرة ومصاعب تحيل هذا المكان على البؤس والفتك والظمأ، تماماً كما أصبح العبور، في الوعي البشري، إحدى النماذج النمطية المستلهمة بمعان قدسية وإعجازية. ولا تختلف «البلدة الأخرى» عن هذا المغزى، فأحداثها تجري في مدينة (تبوك)، وهذا يعني أن العنوان تسمية تقصد الانزياح عن الاسم المعروف للمكان إلى اسم آخر لا يُعَرِّف المكان وإنما ينكِّره، ولا يظهره وإنما يبطنه. فكأن البلدة الأخرى هي تبوك المخبَّأة وليست المعلنة، وهي أخرى مجازية وليست الأولى الحقيقية، ويتضمن ذلك الدلالة على ما تنطوي عليه أحداث الرواية من مقابلة في حياة بطلها بين حياة معلنة وأخرى يكتشف فيها سراً ما هو ممنوع ومغلق علناً، فيمارس حياته بنفاق ويقترف من الموبقات ما لم يعهده من قبل! وعلى رغم أن «مسك الغزال» يبدو عنواناً محايداً، فإن قراءة الرواية التي يعنونها، تلفتنا إلى معناه المكاني، حيث الدلالة الضدية له دلالة العفن والقذارة والإنتان، التي تفضي إليها علاقات إنسانية غير سوية، ومكان مغلق، وهيمنة ذكورية، وثراء.