تبدأ مقدمات الروايات العربية التي تروي عن فضاء سعودي، بصور متشابهة، تعلن الاختلاف بين الذات والمكان الذي تفد عليه، وتدلل بمعان مختلفة ومن زاوية تشبه المفاجأة، على قسوته تجاهها، وموقعه في دائرة من الصفات المضادة لها وأحياناً العدائية. والمقدمة هكذا تخلق حافزاً لتبرير السرد الذي يصبح سرداً نوعياً من حيث قيامُهُ على رحلة البطل، والرحلة تقتضي خصائص في المكان ترشحه لدرجة من البطولة التي تقوى على إبراز بطولة الذات؛ وذلك بدفع الذات إلى الارتحال إليه من جهة، وانتصابه عائقاً أمامها بوصفها رغبة مطلقة من جهة أخرى. في «البلدة الأخرى» يبدأ السرد، بانفتاح باب الطائرة، ودخول إسماعيل إلى مطار تبوك. وتبدأ اللقطات المنتقاة لإعلان المكان: «انفتح باب الطائرة فرأيت الصمت» هكذا تفْاجَأُنا أول صفة للمكان: إنها الصمت، وبالطبع فإن الصمت لا يُرى، ولكنه التعبير المجازي الذي يستبدل الرؤية بالسمع، لتأكيد دلالة الإحساس بالاختلاف، حيث سلوك التطلع بالعينين -كما هو معتاد- في المجهول أو الغريب. وهذه لفتة عميقة لدلالة الاختلاف الصادم للذات الذي تصنعه الرواية في سطرها الأول. وسيدهشنا، حين نتمادى في قراءة الرواية، إلى أي حد وَظَّفَتْ الرواية الصمت لمضاعفة الوحشة وتعميق حس الاغتراب للذات في المكان. ثم يأتي أول تماس مع ثقافة المكان، حين يصل إليه الصوت زاعقاً: «الرجال في صف والنساء في صف» و»تقدم يا ولد» وهذان ملفوظان أمريان يحكيان الاختلاف، أو بالأحرى يعلنانه، وهو اختلاف لفظي وسلوكي وثقافي اجتماعي. ويضاف إلى ذلك صدمة السؤال عما يحمل في حقيبته؟ هل هي «كتب»؟ فيجيب: «طبيبك الخاص- مجلة مصرية» فيرد الموظَّف: «هذه ممنوعة» ويضيف: «يا أخي ما للمصريين يحبون القراءة؟!». إنها ملفوظات تُتَابع إعلان الاختلاف، والمدلول الذي تفضي إليه دلالتها هو الشعور بتفوق الذات، وهو مدلول مركزي في الرواية، بحيث غدا الإشهاد عليه دلالة بارزة في الرواية. ولا تختلف مقدمة «مسك الغزال»، فهي تبدأ بلحظة انطواء سهى على ذاتها في البيت مفكرة في ترك العمل، وتنتقل إلى رواية الحدث التالي: حين دخل الرجال كنت أجلس في غرفة الاستراحة... جمدتُ ثم ارتجفت. قال لي أحدهم: «تستري يا حرمه». وهذه دلالة اختلاف ثقافي اجتماعي، وهي تحمل تحفيزاً سردياً قوياً بسبب بروز العامل الذات في شخصية أنثى، والأنثى سردياً قيمة عاطفية وجمالية ذات حساسية خاصة، وحضور «الرجال» بالنص على تجنيسهم بما يستدعيه من دلالة غريزية وجسدية، وصيغة الملفوظ التي تقوم على الأمر وتسمية المرأة «حرمه». ونتيجة ذلك هي دلالة اختلاف بين الذات والمكان تؤشر على القلق والريبة المتبادلة، وهو المعنى الأساسي الذي لاحظتُ حرص هذه الرواية على إبرازه واللعب عليه في علاقة المكان بالأنثى. أما في «الطريق إلى بلحارث» فإن بداية الرواية لقطة ملصقة لحدث يأتي زمنياً في آخر أحداثها، وهو حَمْل المدرسين الأربعة المغتربين لألواح الثلج والنزول بها عبر المنحدر الجبلي الوعر من مدينة بلجرشي إلى قرية بلحارث، دون أن يستريحوا لأن جثة زميلهم المدرس المغترب تنتظرهم. هكذا تعلن الرواية الموت في مقدمتها، وهو موت زميل الراوي ورفيقه في غرفة السكن. والموت هنا هو الوجه الذي تتجلى به وفيه صورة المكان أمام مغتربين قادهم إلى المكان طموح إلى حياة أفضل. وبين نذير الموت بالحمى التي أتلفت أحدهم وبشارات الحلم بحياة أفضل التي قادتهم إلى بلحارث يرتسم الاختلاف بوجوه ثقافية اجتماعية وسلوكية عديدة. ويتكرر الموت في «براري الحمى» وبالسبب نفسه، وعلى رغم أن الرواية تبدأ بملصق لفقرة مشبعة بالشعرية تصف القنفذة من نافذة الاكتشاف والصدمة وخيبة الحلم، وتبذر بؤرة معنى العزلة والثبات وضياع الذات الذي يغدو أساسياً في الرواية، فإنها تبدأ بعد ذلك بمونولوج البطل وقد مات لكنه يجادل رفاقه الذين يطالبونه أن يشاركهم في دفْع أُجْرة دفنه! وهذا دلالة على تمزق الوعي وتعمق حس الاغتراب، وهي دلالة تخرق المنطق خرقاً يغدو المكان به غير معقول، في امتداد يجاوز حافة الضياع والنفي والبؤس في ذاكرة البطل بوصفه ضحية المأساة الفلسطينية بأكثر من معنى! وبدلالة الأسى نفسها يأتي الموت مقدمة لرواية «نجران تحت الصفر»، لكن من منظور آخر ذي تماسك إيديولوجي لا ينفك عن بَذْر الأمل والطموح إلى الانفراج، وذلك باصطناع البطولة في وجهة التغيير. ولهذا كان اختلاف فضاء المكان هنا، بوصفه صادماً للذات، ذريعة لصيغة البطولة التي احتوتها الرواية وبقدر ما تطفح به من تعبئة ثورية. فالبطل هنا لا يعاني في المكان كما عانى أبطال الروايات السابقة، من عزلة وضياع ونفي، ولا يعيش الصمت، ولا يفتقر إلى التعاطف الإنساني. إنها معاناة مجاوزة للفردية. أما نهايات هذه الروايات جميعاً، فهي بلوغ درجة قصوى من التنافر والتنافي المتبادل بين الذات والمكان، وهي مغادرة الذات للمكان، بالرحيل عنه الذي يقترن بموت رفيق الرحلة في معظمها. وهي نهاية تقفل متن الرواية بقوسها الذي يتبادل مع المقدمة وظيفة حدية وحصرية لمتن الرواية. ولذلك كان حدا المقدمة والخاتمة متشاكلَيْن في إعلان الاختلاف بين الذات والمكان، وفي التكرار لحدث الموت، أو السفر بالمغادرة مقابل سفر القدوم، والطموح والأمل مقابل الخيبة. ونتيجة ذلك هي المضاعفة لقتامة صورة المكان، والبلوغ بها درجة الذروة التراجيدية التي تتركز فيها الأنظار على خروج البطل وعودته سالماً. ولقد حظيتْ هذه الروايات بشهرة واسعة، فتُرْجِمت إلى لغات أخرى، وتناولها النقاد والدارسون، وحظيت بتوزيع عال. واختيرت «نجران تحت الصفر» ضمن أفضل 100رواية عربية صدرت في القرن العشرين، وتصدرت «براري الحمى» قائمة جريدة الغارديان لأفضل عشرة كتب تعبر عن العالم العربي وقضاياه بصورة مؤثرة، ونالت «البلدة الأخرى» جائزة نجيب محفوظ للرواية عام 1996م، واختيرت «مسك الغزال» ضمن لائحة أهم الكتب الأدبية العالمية... إلخ. وذلك على الرغم من أنها جميعاً تندرج في صدارة نتاج كتابها، وليس من المعقول أنها فنياً أفضل ما كتبوا. وأعتقد أن ذلك يعود إلى صورة المكان التي انطوت عليها، وهي صورة لمكان بدا إلى زمنها مغلقاً ومحجوباً ليس للقارئ العربي والعالمي وإنما حتى للقارئ المحلي.