من كانت له أم فليتدارك ما بقي من أيامها لئلا يصبح يوما فلا يجدها ولا يجد ما يعوض عنها ... بهذه الكلمات المؤثرة ابتدأت رسالة بعثها لي أحد أخوتي الغاليين , ولما أكملت القراءة خالجني شعور سيئ أن تكون والدتي ليست بخير , ولعله يمهد إلى إخباري شيئا ما , ولأني بعيدة عن أمي طالما قتلني إحساس التقصير عندما تمرض أو تتكدر , وطالما غبطت أخواتي لأنهن قريبات منها . لما وصلت الرسالة كنت في المدرسة والمكان لا يناسب المكالمة , لأن الحديث معها له قدسية , ويحتاج إلى سكون من نوع خاص لأسمع ما تقول , ولا أسألها أن تعيد حديثها لأنها تغضب وتفسر ذلك بعدم الاهتمام وسوء الإنصات . أخذ مني القلق مأخذه ولما انتهى الدوام وركبت السيارة اتصلت برقمها , فلم ترد .. وضعت الجوال في حقيبتي وشرد فكري يتعثر في مساحة مبعثرة من الظنون والمشاهد المحزنة التي قد أرى حبيبتي فيها . تبادر إلى ذهني خاطر أن أسافر اليوم إلى الدمام لأراها واطمأن عليها , ولكن اتجاه السيارة إلى إحدى المدارس , ذكرني بأني متجهة إليها لتدريب المعلمات فيها وقد ينتهي اللقاء قرب العصر . أسقط في يدي ؛ وقررت أن أحدثها بعد اللقاء بالمعلمات , أو أن أتصل بأحد أخوتي لأضع حدا للعواصف الفكرية التي اجتاحت عقلي . بدأ الحديث الشجي بيني وبين المعلمات , وتقاذفتنا الذكريات ؛ ذكرياتي القديمة وذكرياتهن الصغيرة , وسعدت بالنظر إلى تلك الوجوه النظرة . ولكن برقا كان يلمع أمام عيني بسرعات متفاوتة يسلط ضوءه على أمي وهي تنظر إلي , ,, انتهى اللقاء وفوجئت بإدارة المدرسة التي استضافتي قد أعدت غداء طيبا على شرف حضوري , فأخجلني ذلك الترحيب الحار وزاد إلى رصيد مشاعري المتعبة في ذلك الوقت فأثقل ,, تناولت الغداء على عجل وتحدثت مع مديرة المدرسة وكان حديثنا عن دور الأم العظيم في التربية , ولم تعلم تلك المديرة الفاضلة أنني أوشكت أن اقفز مسرعة إلى الخارج لاتصل بأمي . ودعني الجميع وكأنهن يستقبلنني من جديد , وصعدت إلى السيارة لأسارع إلى إعادة الرقم الأخير وأنا أسمع أذان العصر ليختلط صوته بصوت الغالية التي ردت وكأن حروفها ترقص أمامي : - السلام عليكم ........ لم أتكلم . توقفت جميع الكلمات التي وعدتني أن تعبر عما في نفسي و خذلتني , كلمة جرا هام بل الوحيدة التي قفزت إلى لساني لأقول : - آلو , ثم انهمرت دموعي ساخنة وفيرة لتمسح جميع تلك الصور الضبابية التي غلفت قلبي منذ الصباح . استجمعت شجاعتي حتى لا أسبب لها القلق , وإن كانت معتادة على سماع صمتي يقطعه نحيب , وسألتها : وشلونك يا ميمتي ...