دين الإسلام دين عظيم، خصّه ربنا سبحانه وتعالى بالعموم والشمولية لكل الأطياف والأجناس والألوان، وكل الأمكنة والأزمنة، وتعدّى ذلك في عموميته وشموليته إلى عالم الجن كما ورد في قوله سبحانه وتعالى: (ليكون للعالمين نذيرًا) الفرقان.. فهو دين ليس له حدود جغرافية أو محددات زمانية. وكان التوجيه الرباني لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بمخاطبة كافة الأجناس والألوان كما في قوله تعالى: (وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيرًا ونذيرًا ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون) سبأ آية 28.. وقوله تعالى: (قل يا أيّها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا) الأعراف 158.. وقوله سبحانه وتعالى: (وما أرسلناك إلاَّ رحمة للعالمين) الأنبياء 107. وبالرغم من تلك الدلالات القاطعة إلاّ أن البعض من الناس -هداهم الله- لا يزال يضع الحدود المكانية والزمانية وحتى الشكلية لهذا الدّين العالمي، ولا يزال يخاطب الناس من حوله وفق هذا المنظور القاصر المنغلق، وهو يعتقد تمام الاعتقاد أن ما يقوم به هو عين الصواب، وأن على من يخاطبهم أن يدخلوا ضمن تلك القوقعة المحددة، وهي نظرة بلا شك جانبها الصواب، لكن الكثير منّا قد انعصر داخل إطارها من خلال ما اكتسبه من تعليمات ومعلومات داخل نطاق ميدانه التعليمي أو البيئي. وكم هي الأمثلة كثيرة وكثيرة على ذلك نشاهدها كل يوم عبر بعض منابرنا الدعوية، وعبر بعض قنواتنا، وعبر بعض الميادين التعليمية، حيث يمارس البعض من معتنقي هذا المبدأ القاصر على فرض تلك الأفكار التي يؤمن بها دون إعطاء أي اعتبار لرأي آخر قد يكون الأصح والأقوى في دلالاته الشرعية، ولعل المتتبع لحال أمتنا في هذه المرحلة تحديدًا يجد أن اختلاف الرأي والصراعات التي تدور حول ذلك هي صراعات طالت الفروع، أو فروع الفروع من هذا الدين العظيم، أمّا الأصول التي حددها القرآن الكريم، واكتملت باكتمال نزوله على سيد البشرية كما في قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا) المائدة 3. هذه الآية الكريمة يجب أن نتوقف عندها كثيرًا لنكتشف الكثير من الدلالات الرئيسة التي تؤكد على أن هذا الدّين قد اكتملت أركانه قبل وفاة نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وهذا أمر يستوجب علينا الانطلاق منه في دعوتنا لنشر هذا الدّين، ولا شك بأن سنّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما هي إلاّ تفصيل وردت تباعًا لتلك التعليمات المجملة في كتاب الله، أمّا ما يذهب إليه الكثير من الناس في اعتبار أن آراء واجتهاد بعض علماء المسلمين الذين تتابعوا عبر عصوره ما هي إلاّ تفصيل للتفصيل الذي وردت به السنّة النبوية الكريمة، أمّا اعتبارها عقائد ملزمة تضاهي ما جاء به القرآن الكريم، وما ثبتت صحته من الرسالة المحمدية فهو أمر قد يخرج بنا كثيرًا عن إطار الأصول إلى إطار فروع الفروع، ولعلّي هنا استشهد بالبعض من الأمثلة التي أصبحنا نعايشها هذه الأيام، وفي مقدمة تلك الاستشهادات الممارسات الإرهابية التي طالت كل منحى من مناحي حياتنا، وعلى إثرها أُهرقت دماء بريئة، وأرواح طاهرة، وممتلكات عامة فهي ممارسات انطلقت من قناعات عقدية فرعية، ومن منطلقات مذهبية وطائفية لا علاقة للدّين فيها بشيء. ومن الأمثلة أيضًا ما نسمعه ونقرأه ونشاهده كل يوم من صراعات فكرية وعقدية انطلقت أيضًا من منطلقات فرعية، أو فرعية الفرعية من هذا الدّين العظيم. ولعلّي أخيرًًا أستشهد ببعض الأحداث التي واجهتها أو لامستها بنفسي، فعلى سبيل المثال قبل أيام كنت في إحدى مدارس التعليم العام لإلقاء محاضرة عن مهارات التفكير العلمي لجميع معلمي وطلاب المدرسة، وقد بدأت محاضرتي بالحمد لله، ثم الدعوة باستحضار سيرة سيد البرية ومنقذ البشرية محمد بن عبدالله، حيث يتوافق ذلك مع تاريخ مولده العظيم، حين دعوت الطلاب والمعلمين إلى استحضار تلك السيرة العطرة في تلك اللحظة؛ كونها تمثل ميلاد أمة، لا ميلاد فرد، ولم يتجاوز ذلك دقيقة واحدة من زمن المحاضرة، ثم أبحرنا جميعًا في عالم التفكير، وما يلزم له من مهارات يستوجب علينا جميعًا ممارستها، وبعد انتهاء المحاضرة التي استمرت ساعتين استوقفني بعض المعلمين، وأشار عليّ بخطأ ارتكبته أثناء محاضرتي! وعند سؤالي له قال: إنك ذكّرت الطلاب بالمولد النبوي، وكما تعلم -والحديث موجّه لي طبعًا- أن الاحتفال بالمولد النبوي حرام، وقلت له يا عزيزي: هل وجدتني أمارس طقوسًا مخالفة، أو استخدم بعض الطبول أو المزامير؟ فالأمر لم يتعدَّ التذكير بمولد سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عليه الصلاة والسلام، وهي فرصة وجدتها سانحة من خلال تلك المناسبة العظيمة وقلت لأولئك الإخوة المعلمين: هل تناسيتم ما قلناه في مدة ساعة وثماني عشرة دقيقة، ولم تتذكّروا سوى تلك الكلمات؟ انتهى الحوار. ولعلّي هنا أقول إن حجم الأفق الذي ننظر به إلى هذا الدّين سيكون هو المساحة التي سننشره بين البشر من خلالها، فالدين الإسلامي سيصل إلى كل البقاع بكل أجناسها وألوانها وأطيافها وأشكالها؛ لذا يستوجب علينا أن ننطلق من قيم ومبادئ وتعاليم صالحة للتطبيق في كل منطقة من تلك المناطق، وهذا أمر أرى أن البعض منا قد جهله أو تناساه؛ ممّا يستوجب علينا أن نعود إلى ما ورد في كتابنا الكريم وسنّة نبينا التي ثبت صحتها من خلال مصادرها الموثوقة، وعند ذلك فقط سيكون كل فرد منا داعية في سلوكه وقيمه ومبادئه، فالدّين المعاملة كما قال صلى الله عليه وسلم.. والله تعالى من وراء القصد.