عقد مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني لقاء في مدينة الأحساء في الفترة من 5-6 محرم 1431ه حول (واقع الخطاب الثقافي السعودي وآفاقه المستقبلية) كان لي شرف المشاركة فيه ضمن نخبة من المثقفين رجالاً ونساءً ومن اتجاهات مختلفة يجمعها الإسلام، وحب الوطن والغيرة عليه، وكان التفاعل في اللقاء إيجابياً ومفيداً للجميع، وإن شابه بعض التشنجات والتوترات.. وحديثي اليوم عن خطابنا الثقافي الصامت الذي لم يتعرض له اللقاء ضمن محاوره وموضوعاته، فمن المعروف أن التفاعل بين البشر لابد له من وسيلة اتصال، وتعتبر اللغة الوسيلة الأهم لذلك التفاعل، ولكن هناك تفاعلاً يتم في الحياة بصمت، وربما كان أكثر فاعلية وتأثيراً من الخطاب المنطوق، ونقصد به هنا السلوك، لقد وصلت أعداد قليلة من التجار إلى أماكن كثيرة من العالم، وكان سلوكهم أهم عنصراً من عناصر الدعوة إلى الله، لقد دخل بسبب ذلك السلوك ملايين البشر في دين الله، ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم الذين رباهم الرسول صلى الله عليه وسلم يحرصون على أن يكون سلوكهم موافقاً لما تؤمن به قلوبهم، حتى لا يتهمون بالنفاق والضعف والخور، ولذلك كان معظمهم قرآناً يمشي على الأرض، ولعل أبرز مثال لهذا الخطاب الثقافي الصامت المتمثل في السلوك القويم تبرزه قصة تلك الفتاة، فقد نهى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن أن يمذق اللبن بالماء بعد أن شكا له بعض الناس من أن باعة اللبن يضيفون له بعض الماء، فجاء مندوب عمر إلى السوق ونادى في الناس: أن أمير المؤمنين يأمرهم بعدم مذق البن بالماء. وعاد الناس إلى منازلهم، وفي المساء كان عمر يتفقد أحوال الناس كعادته، فاقترب من أحد البيوت وسمع الحوار التالي بين أم وابنتها، الأم: قومي يا ابنتي وأضيفي بعض الماء على اللبن. فتقول البنت: إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نهانا عن ذلك. فتقول الأم: وأين عمر منا الآن؟ إنه نائم في بيته لا يرانا!! فتقول البنت: إذا كان عمر لا يرانا فإن ربّ عمر يرانا!!. تبسم عمر رضي الله عنه وعاد إلى منزله مغتبطاً بهذا الموقف النبيل لتلك الفتاة المؤمنة، وفي اليوم التالي جاء ليخطبها لابنه العاص بن عمر بن الخطاب، وتزوجها، وأنجبت بنتاً تزوجها عبدالعزيز بن مروان، فأنجبت له عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه خامس الخلفاء الراشدين. لقد كان السلوك انعكاساً لما يعمر القلوب من إيمان ومراقبة لله سبحانه وتعالى، وصدق الصحابة مع الله فكان لهم النجاح في الدنيا بفتح الآفاق ونشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وفي الآخرة سيكون نجاحهم في دخول جنات النعيم. إن الإيمان يعرف بأنه قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان، والسلوك يجب أن يكون انعكاساً صادقاً لما وقر في النفس من إيمان، فالصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر لا تعتبر صلاة، وإنما أداء لطقوس معلومة تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم، والإيمان الذي لا يردع صاحبه عن أكل المال الحرام، وأخذ حقوق الناس بالباطل لا يعتبر إيماناً يدخل صاحبه الجنة، روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن) أي أن الإيمان لا يكون حاضراً عند ارتكاب تلك الأفعال ليردع صاحبه عنها، ويعتبر الخطاب الثقافي الصامت أبلغ تأثيراً في الآخرين من الخطاب المنطوق كما ذكرنا آنفاً، وقد عرف محمود عودة في كتابه (أساليب الاتصال والتغير الاجتماعي) الاتصال بأنه (العملية أو الطريقة التي تنتقل بها الأفكار بين الناس، داخل نسق اجتماعي معيّن، يختلف من حيث الحجم ومن حيث محتوى العلاقات المتضمنة فيه)، وكل سلوك يقوم به الإنسان يعكس فكرة يؤمن بها، ويطبقها في حياته، فعندما يسرق الإنسان أموال الغير فإنه يعطي فكرة بأنه يستحل أموال الناس بالباطل، ومهما تحدث عن العدالة والصدق فإن أحداً لن يصدقه، فسلوكه أكبر دليل على ما يعتمل في أعماق نفسه، والاتصال الصامت يعبر عن الحوار الروحي والنفسي الذي يجري بين أطراف عدة، والمعاني المتبادلة بينهم لا من خلال النطق ولكن من خلال السلوك والنظرات العامة. ولا خير في تربية وتعليم لا تنعكس على سلوك الأفراد، ولا تؤثر في تعاملهم مع بعضهم بعضاً، ولا خير في إيمان لا يردع صاحبه عن الحرام، وأكل أموال الناس بالباطل، ولا يردعه عن خلف المواعيد، والغش والخداع والوقوع في الرذائل. لقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم (الدين المعاملة) أي أن أثر الدين يظهر في المعاملة، فإذا كانت المعاملة صادقة ونظيفة ومستقيمة دل ذلك على أن الإنسان صادق في معتقده ودينه. وإذا أردنا أن نطبق ذلك على واقعنا فإننا نجد أن هناك بوناً شاسعاً بين المثال والتطبيق، فما أكثر النفاق، وخلف المواعيد، وظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وما أكثر مخالفة القوانين والأنظمة، وفي مقدمتها نظام المرور، وما أكثر تلويث البيئة وعدم المحافظة عليها، وهذا يعني أن علينا أن نعيد النظر في نظامنا التربوي في الأسرة وفي المدرسة وفي وسائل الإعلام، وأن نحاول أن نكشف مكمن الخطأ ونقوم بإصلاحه قدر ما نستطيع، إننا إذا اقتربنا في سلوكنا مما يطلبه منا الإسلام كان خطابنا المنطوق وتأثيرنا فيمن حولنا مؤثراً وفاعلاً، والمجتمع الذي يجب أن نحاول أن نحتذيه ونقترب منه في جميع جوانب حياتنا هو مجتمع صدر الإسلام بأخلاقه وتعاملاته ونبله وتضحياته وفهمه وتطبيقه للإسلام. والله من وراء كل شيء.