جرت العادة في انجلترا أن ينتقل البريد منها إلى سائر أرجاء الامبراطورية بواسطة البواخر، ثم ينقل بالعربات إلى سائر المدن بواسطة عربات تجرها الخيول غير العربية .. ثم يقف عامل البريد ليتلو على أهل القرية أو المدينة أسماء أصحاب الرسائل، فيتقدم كل منهم ليتسلم رسالته مقابل شلنين تدفعان لعامل البريد، وفي أحد الأيام وصلت العربة والتف حولها الأهالي وأخذوا يتسلمون رسائلهم، ثم نادى باسم فتاة تقدمت منكسرة ومتعثرة، تناولت الخطاب الوارد إليها بلهفة أخذت تقلبه وتقبله بلهفة وحب، ثم ردته والحسرة تشيع في قسمات وجهها الجميل والبريء .. سألها عامل البريد عن سبب ردها للخطاب أجابت بارتباك وخجل .. اعذرني فأنا فقيرة ولا أملك أجر الخطاب الوارد لي .. وهنا فجأة تأثر أحد الشباب الحاضرين لاستلام برقياتهم وتقدم بشهامة ودفع أجر الرسالة واستلمها، ثم سلّمها للفتاة وشكرته وهي مرتبكة وانفض الجمع فتقدمت فعادت الفتاة إلى الشاب وأعادت إليه الخطاب، وقالت .. لم تكن هناك ضرورة لدفع ما تفضلت بدفعه يا سيدي .. دهش الشاب وقال لها: لقد أشفقت عليك وأردت ألا تنحرمي من قراءة الخطاب .. أجابت الفتاة ولكنني قرأته يا سيدي.. فوجئ الشاب وسألها: كيف وأنت لم تفتحيه؟! قالت: اتفقت مع خطيبي وهو جندي في المعسكرات أن يضع على غلاف الرسالة رمزا أو صورة أو لونا اتفقنا مسبقا على فهمها معا، وعندما استلم الرسالة أفهم كل ما ورد فيها دون أن أفتحها فلم يكن بداخل الظرف سوى ورقة فارغة بيضاء، ثم فضت الغلاف، فلم يكن في داخله سوى ورقة بيضاء.. دهش الشاب بذكاء الفتاة وسعة حيلتها وعاد يسألها: لمَ فعلت ذلك؟! قالت: إنني أتقاضى ثلاثة شلنات في الشهر ولا أقدر أن أدفع منها شلنين، لو كان الأجر قليلا لدفعته بسهولة. ماذا كانت ردة الفعل داخل الشاب من هذا الحادث الذي تعرّض له وهو في رحلة يقضي فيها إجازته القصيرة .. ماذا فعل هذا الحادث في نفسه .. في عقله ...في حياته؟ فكّر ثم فكّر ثم أطال التفكير، ثم حلل ثم توصل إلى أن فكرة هذه الفتاة لو اكتشفها جميع المعدمين والفقراء في البلد وهم كثيرون، لأدى ذلك إلى تدهور الوضع في الدولة ونشأت أزمة اقتصادية وهداه تفكيره إلى فكرة أسرع يعرضها على الوزير المسؤول في الدولة .. وفحواها إلصاق ورقة صغيرة على كل خطاب يكتب فوقها مدفوع الأجر ويدفع المستلم مقدما، وقيمتها شلن واحد فقط .. رفض الوزير فكرته .. حاول مرة أخرى وأعاد تقديم فكرته بطريقة أخرى ثم رفضها الوزير للمرة الثانية ولم ييأس مدرس الرياضة رولاند بل عرضها على أساتذته في المدرسة ومشرفيه وحتى طلابه تحمسوا للفكرة، وطبقوها بصمت في الميدان، وطبعوا كتيبات تعريفية يشرحون فيها طريقتهم وأفكارهم ويدعمونها بالإحصاءات والأرقام حتى وصل الأمر إلى قيام مظاهرات تؤيد الاقتراح .. علمت الملكة فكتوريا بالأمر فاستدعت (رولاند هل) فسمعت منه حججه وبراهينه فاقتنعت بها، وازدادت اقتناعا عندما قدم لها نموذج أول طابع بريد وعليه صورتها ونبّهت رولاند أن يعيد رسم صورتها لتظهر بشكل أجمل وفي عام 1840ه صدر أول طابع بريدي يحمل صورة الملكة .. السؤال: لمن يعود الفضل في ذلك؟؟ هل يعود إلى رولاند لأنه استخدم عقله وأمعن في التفكير حتى اهتدى للفكرة؟ أم إلى إصراره وعزيمته وإيمانه بفكرته وتطبيقها وتجربتها؟ أم إلى الفتاة صاحبة الفكرة التي لم يذكر التاريخ اسمها ولم يهتم لأمرها كعادة المفكرين والمبدعين وكعادة .....؟ أم الحاجة التي جعلتها تفكر مع خطيبها في طريقة يتجاوزون بها أزمة الفقد والفقرمعا؟ ألم يشعر الوزير بالحرقة والألم، لأنه رفض فكرة جديدة وقبل أن تجرب؟ لمن يرجع الفضل .. في نجاح الفكرة للفتاة .. أم لرولاند .. أم لصورة الملكة؟ تذكرت وأنا أقرأ هذه القصة حالنا في كثير من جوانب حياتنا في العمل .. وبين الأصدقاء ...فأثارت في نفسي هذه القصة تساؤلات وملأت قلمي بعلامات التعجب، ولكني أفرغتها لأن سؤالا ينطرح ولا تجد من يجيب عنه، يشعرك بفجوة واسعة لا تملؤها أتربة هذا الكون وأحجاره ..