هناك جيل لا يعرف ما السيل؟!.. وأيضا ما السيل المنقول؟!.. جيل ولد في زمن القحط والجفاف.. جيل تربى في مدن معلبة.. معالمها شوارع متيبسة.. كرتونية المظهر.. جامدة الملامح.. محاطة بأرصفة صلدة.. خاوية من توازنات الحياة.. بيئة صنعها البشر.. ولها أسباب.. البيئة لم تعد معروفة من خلال مشاهد المدن.. والخطوط الطويلة السريعة بينها.. أصبحت الطرق غابات بمحطات البترول والسيارات.. لم يعد هناك جيل يعرف أسرار البيئة، أو يهم معرفتها.. جيل جديد في بيئة جديدة.. جيل ينتمي إلى بيئة مشيدة.. غنية أو فقيرة.. ضاعت معالم.. ظهرت معالم أخرى.. البيئة أصبحت تعريفا لما يحيط بك كفرد.. هنا المشكلة.. هنا الحل.. لا نطلب من الأجيال أن تعرف السيول أو السيول المنقولة.. أو حتى تصفها.. أو تحدد خطورتها.. لكن نطالب المسئول بأن يعرف.. ويعرف أيضا حزمة أخرى من المعلومات.. منها معرفة الخطأ والصواب.. معرفة حدود إمكانياته.. معرفة خطورة التجاوزات على العباد والبلاد.. معرفة أن البيئة أعم وأشمل من تقاسيم ومساحة ثوبه الذي يلبسه.. عاش كاتبكم فترة السيول حتى المنقولة.. شاهدها بعينيه العسليتين.. تبلل جسمه الحنطي بمياه غدرانها.. الغدير بقايا مياه السيول في الأودية.. وقف بجانب السيول، شاهدا على زحفها.. عرف لونها البني الفاتح.. كأنها قهوة العرب السمراء.. أمواج مياه تزحف على الأرض.. شيء يدب ليست له أطراف.. لا ترى بدايته ولا نهايته.. الأرض المبسوطة أمامه في قبضته.. كلها طريق ودرب لزحفه نحو الأمام.. وهناك زبد تراه على سطح السيل.. زبد يتولد.. كأن السيل يخطب في الأرض والإنسان.. بأشياء لا نسمعها.. نعرف تأثيرها على الحياة.. السيول مياه أمطار.. السيول محصول السحب العابرة.. محصول يتم هدره دون خوف، أو خشية.. محصول ليس له صاحب.. محصول للجميع.. وعلى الجميع العمل من اجل استثماره.. السيول قطرات مياه.. تنزل بدون لون أو رائحة.. لكن تأخذ لون غبار وحبيبات التربة الناعمة.. تربة تجرفها معها من سفوح الجبال وبطون الأودية.. تنقلها إلى أماكن أخرى لا نراها.. هكذا تنحر مياه الأمطار في تربة الجبال.. تفتتها.. تجرفها.. تنقلها.. وعبر السنين، تصبح الجبال أخاديد موحشة.. خالية من الحياة.. مثلها مثل الإنسان عندما يشيخ ويهرم.. حتى الجبال تشيخ وتهرم بفعل الفاعلين.. لكنها تظل شابة مع اعتناء الإنسان.. من لا يهتم لا يعتني.. من لا يقلق على شيء لا يعرف قيمته.. هكذا نحن حتى مع أرواحنا في الشوارع.. تذهب (فطيسة) في حوادث.. هي نوع من الكوارث البشرية.. قريتي الرابضة على احد سفوح جبال السراة، تحضن واديا عظيما.. يخترقه طريق السيل.. وعلى ضفاف طريق السيل ترى الحدائق المعلقة على سفوح الوادي الطويل، واديا يستقبل سيول الأودية الأخرى.. تأتي إليه من جهات عديدة.. عبر أودية فرعية.. لها امتداد طولي.. في مساحات قرى مجاورة وبعيدة.. في وادي قريتي تتجمع مياه السيول.. تلتقي.. تلتحم.. تندفع إلى الأمام.. تسلك طريقا لا نعرف له نهاية.. نقف في تجمعات حول حافة الوادي.. كأننا نستقبل هذا السيل من جهة.. ثم نودّعه فورا من الجهة الأخرى.. نرى قوة الله في هذا السيل الذي لا يتحدث.. سيل لا يعرف إلا الطريق فقط.. لا يكترث بوجودنا.. منشغل بحاله.. سيل مسالم.. لا تضع نفسك في طريقه فتهلك.. تلك كل الحكاية.. لا شيء يقف في وجه السيل.. عليه أن يصل إلى مصبه الذي اختاره الله.. برا أو بحرا.. عندما أتذكر الماضي مع السيول.. استشعر الخطر.. مياه متجمعة.. أصبح لها جسم بارتفاع يزيد على (4) أمتار.. وبعرض يزيد على (5) أمتار.. وبطول يصعب تحديده.. أين تشاهد مثل هذا الوصف؟!.. باعدت الحياة المدنية بين الإنسان والبيئة.. الهجر قاس حتى على البيئة.. كان هناك حوار، بلغة واضحة، بين الإنسان وبيئته.. مات جيل كان يحترم البيئة.. بقيت البيئة تنزف.. موتها في تصحرها.. حتى في وجود المطر.. هل تصحرت العقول أيضا؟!.. ويستمر المقال.