تصلني على الايميل رسالة دورية من موقع الدكتور رامز طه، وهو موقع رسمي يشرف عليه مجموعة من أطباء النفس والأخصائيين النفسيين، تدور هذه الرسالة حول الضغوط والتوترات التي تسببها مشاكل الحياة اليومية، وما تسفر عنه من أزمات صارت موضوعا لكثير من البرامج التلفزيونية في السنوات الأخيرة. وليس ذلك إلا لأنها موضع اهتمام الجمهور الأول، وهذا يترتب أيضا على كونها ظاهرة خطرة وجذرية تشغل حيزا من الهم الاجتماعي الجماهيري الذي يشكل انشغال الإعلام الأول. وهذه الضغوط لم يعد بالإمكان الحديث عنها في جانبها الفردي، فقد أصبحت ظاهرة اجتماعية، لأنها نتيجة تأثير الظروف الاقتصادية والسياسية الخانقة على منظومات الأسر والمؤسسات التي بدورها تسقط ضغوطها على الفرد. ولهذا فالصحة النفسية لم تعد ترفا، ولم يعد المرض النفسي هو تلك اللازمة السينمائية التي تترافق مع الثراء والفراغ لدى أبناء الأثرياء، كما لم يعد بالإمكان ربطه بالكامل بالإهمال في فروض الدين ونوافله، أو في ضعف الجانب الروحي. بل إن هذا الإهمال قد يكون ناتجا عن الضغوط النفسية، في حلقة مفرغة لا يمكن تمييز طرفيها. وهناك فروق كبيرة بين أنواع الحالات وطرق علاجها، وقد وجد المجتمع نفسه مرغما على الاعتراف بهذا النوع من الأمراض، وهذا النوع من الطب، لكنه لا زال يعاني رهاب الخوف من المجهول، واتخاذه عدوا يتجنبه بدلا من مواجهته بما يلزم. ففي مواجهة الأزمات النفسية، التي باتت تعصف بالمجتمع أفرادا وشرائح عريضة، لا يزال الناس يختصرون كل أعراض الأزمات النفسية في خبراتهم الساذجة من المسلسلات والأفلام الهابطة، وبالتالي نجد أنفسنا أمام حالات متزايدة من آثار العلاج الجانبية على كثير من المرضى بدلا من نجاحها في ما وضعت له. مما يزيد الفجوة بين الناس والطب النفسي الرصين. وما يلاحظ هو أننا انتقلنا من شك وارتياب كبير تجاه العلاج الدوائي، إلى استسهال به لدرجة ترك الأمر كله عليه، والاكتفاء بما ينتج عنه من علامات شفاء مؤقتة، غالبا ما يهمل الأهل العلاج بعدها لتنتكس الحالة وتتضاعف الأزمة. وبرغم اعتراف الأسر رغما عنهم بذلك النوع من العلاج بعد طول عناد فإنهم لا زالوا غير واعين بأهم أساساته، وأولها معرفة ووعي بعموميات علم النفس، وأنماط الشخصيات، وخطوط عريضة حول الأزمات النفسية المنتشرة. أما في حالة تأكدهم من مرض أحد أفراد الأسرة فعليهم من باب الواجب لا النافلة أن يحيطوا بكل أسرار الحالة ومظاهرها وطرق مواجهتها، ومن ذلك أن أساس العلاج ولبه هو في تغيير المحيط بالمريض، وتعلم طرق خاصة وملائمة للتعامل معه في فترة المرض وظهور الأعراض مهما كانت مؤقتة. وليس جهل العوام وحده هو المسؤول عن هذه العقد المتراكمة في تاريخنا مع الطب النفسي، فهناك انعدام الرقابة على العيادات وممارسي هذا النوع من الطب، فكيف يستطيع المرضى وغالبيتهم من شرائح اجتماعية شبه معدمة مواجهة الارتفاع الفاحش في تسعيرة هذه العيادات؟ ثم في أسعار العلاجات؟ علما بأن وزارة الصحة تغفل تماما هذا الجزء من الإنسان، رغم ما نسمع ولا نرى من مشاريع عديمة المدى، عن إنشاء مشاف ومصحات في مختلف مناطق البلاد. أما الأقسام الصغيرة المفتوحة في المشافي الكبيرة فلا يكاد يكون لها أي أثر، وغاية ما يحدث هناك أن يتم غالبا صرف العلاج للمريض من دون متابعة لحالته وتطوراتها، ومن ثم اعتياد المريض على حالته والتصالح معها وفقد أي حماس للخروج منها. هذه المساحة الخطرة من حياة الفرد والمؤسسة المجتمعية يجب ألا تترك للصدف، فالأمور العقلية النفسية بخلاف أمور البدن لها آثار بعيدة المدى على الفرد والمجتمع، لا يمكن تداركها بسهولة. وفي هذا الوقت الذي تكاثرت فيه العيادات النفسية بشكل ملحوظ، أين دور وزارة الصحة من الرقابة، إن عجزت عن الفعل؟ ومن نشر الوعي بالبرامج والفعاليات المستمرة والعميقة، فلم تعد برامج د. فيل وأوبرا وينفري كافية ولا ملائمة لحاجة المتابع المحلي، ومشاكله، ولا يكفي لقاء أسبوعي مجاني وعابر يتعامل مع الحالات عبورا واختزالا. نحتاج أن نتعلم كيف نفهم ذواتنا، كيف نفهم مشاكلنا، وكيف نتصالح مع أنفسنا ومع ما حولنا، بما يحتاج له هذا من طاقة هائلة وصبر ومران ومعرفة. نحتاج لبرامج تمارس هذا الوعي إعلاميا ليشاهد المتلقي ويتعلم الأجيال، وما دمنا قلدنا كثيرا من برامج الإثارة الفائضة والفضفاضة حتى بديكوراتها وأعمار مقدماتها، فلنقلد برنامج الدكتور فيل بما نمتلك من طاقات علمية رائعة كالدكتور السبيعي والدكتور الحبيب والدكتور التويجري والدكتور الفوزان وغيرهم كثير من المبدعين في هذا المجال. ولن تعدم هذه البرامج وسائل تمويل ذكية مثل معظم البرامج الجماهيرية اليوم. ولن تعدم تعلق الجمهور بها لتكون مسيرة أجيال، فكلنا يذكر كيف كان برنامج “مستشارك” محط اهتمام ومتابعة.. أقول هذا والله الموفق.