في رمضان تتألق نفوس المؤمنين الصائمين، وترقى أرواحهم، وتصفو قلوبهم، وتتحوَّل فيه طباعهم تحولاً يجعلهم إلى الله أقرب، وفي الخير أرغب؛ لأنهم في رمضان يتخفون في مشاغل الحياة الدنيا، ويرتبطون بالقرآن الكريم تلاوة وتدبراً، ويريحون أنفسهم من عناء الحياة بالذكر والصلاة، ويريحون أجسادهم من تنوع المأكول والمشروب بالإمساك عن الطعام والشراب طاعة لله، وتطبيقاً لركن مهم من أركان الإسلام. في رمضان تصبح قلوب المؤمنين خاشعة نابضة بحب الخير، متفتحة لاستيعاب معاني القرآن الكريم ومواعظه وأوامره ونواهيه، واستيعاب معاني الحديث النبوي الشريف وإرشاده وتوجيهه. وصدق بعض السلف حينما قال: رمضان نعمة وغنيمة للمؤمنين، ونقمة وغُرْمٌ ثقيل على المنافقين والفاسقين. فهو نعمة وغنيمة للصائم القائم الذي يحسن اغتنام فرصة رمضان بكل ما له من آفاق وأبعاد روحية عظيمة، وهو نقمة وغُرْمٌ على كل فاسق أو منافق يستثقل الطاعة، ويستوحش من مواسم العبادة والخير. قرأت صبيحة أول يوم من أيام رمضان لهذا العام 1430ه فيما قرأت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)، وهو حديث معروف رواه البخاري - رحمه الله - في صحيحه في الباب الرابع من كتاب الإيمان؛ فشعرت بأكثر مما كنت أشعر به من قبل من تناسق معانيه وعباراته، وأخذت أكرر نصَّه الموجز المشرق بصوت مسموع أكثر من مرة، حتى لكأني أستمع إلى أنغام وأهازيج، فالسين بهمسها المتكرر (المسلم، سلم، المسلمون، لسانه) والهاء بضجيجها الجميل المتكرر (المهاجر، هجر، نهى) كلها تشكل إيقاعاً خاصاً يصعب على المتذوق أن يصف أثره العميق في نفسه. وحينما نلتفت إلى المعنى الذي يتألق من خلال هذه الكلمات، ندخل إلى عالم آخر من البيان النبوي، ونحلِّق في آفاق من التزكية للروح البشرية في إطاريها الاجتماعي والشخصي، مما لا يتوافر إلا لمن أوتي جوامع الكلم - صلى الله عليه وسلم -. ففي هذا الحديث الشريف قاعدة ذهبية للعلاقات البشرية في أوسع مساحاتها، وأبعد مسافاتها، وفيه تأصيل شرعي لمعنى من معاني كلمة (المسلم) التي تستدعي حينما نذكرها كثيراً من المعاني المضيئة والصفات الحميدة. فالمسلم الحق ليس هو الذي يحمل هذه الهوية شكلاً دون مضمون وقولاً دون عمل، وليس هو الذي يؤدي بعض أركان الإسلام وواجباته أداءً شكلياً بعيداً عن التطبيق العملي لجميع ما تدل عليه كلمة (مسلم) من أخلاق وقيم.. كلا؛ فإن المسلم الحق هو الذي يتخلق بأخلاق الإسلام، ويتعامل مع الناس بما يتناسب مع هذا الاسم الجليل، ومع خيرية هذا الدين الشاملة الكاملة، ولعل بركة الصوم هي التي أضاءت أمامي صروف هذا الحديث الشريف، فجعلتني أرى أنواراً ساطعة في كل حرف منها، (المسلم) من سلم المسلمون من لسانه ويده، فلا يغتاب ولا يسعى بالنميمة، ولا يكذب، ولا يشتم ويلعن، ولا يعتدي على أحد بيده ظلماً وعدواناً، هذا هو الجانب الاجتماعي. أما الجانب الشخصي فيظهر في الجزء الآخر من الحديث (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)، إنها الهجرة العظيمة إلى عالم الصفاء والنقاء والالتزام بما شرع الله (هجر ما نهى الله عنه) بهذه الشمولية والإطلاق التي ينضوي تحتها هجران كل شر وأذيَّة، وفساد وإفساد وكفر ونفاق وضلال. هكذا يرقى رمضان بأرواحنا، ويسمو بقلوبنا، ويصفِّي أذهاننا؛ فهيا نجوب آفاقه الواسعة، ونبلغ أبعاده المترامية.