قبل خمسمائة سنة تقريبا بدأت أوروبا مرحلة التنوير التي دفعتها للانفتاح والخروج من شراك الكهنوت الكنسي، وأدت إلى الاكتشافات و الاختراعات الجبارة، والتفوق العلمي، الذي ينعم العالم به في هذا العصر . ومنذ ذلك الوقت والانتصارات تتوالى والمعرفة تتضاعف بدون حدود. فمن- نيوتن –وجاليليو- وقوانين الجاذبية وغيرها إلى» اينشتاين ونظرية النسبية» إلى»ارم استر ونق» وهو يمشي على سطح القمر، وأخيرا « بيل جيتس» وأجهزة الحاسوب الذي جعل العالم بين يدي الجميع، من خلال الشبكة العنكبوتية، والهاتف الخلوي الذي أصبح من ضروريات الحياة. كل ذلك بفضل فك عنان البحث العلمي، بإطلاق عنان العقل البشري ليبحث ويتأمل، ويبدع، ثم يزداد إبداعاً. بدأ التنوير في أوروبا مكبلا ومترددا، ومحاربا، ورغم ذلك بدأ، واستمر،وانتصر، واخرج الإنسان من قيود الماضي، إلى عالم اللاقيود، ومن عوالم الحدود الجبرية، إلى فضاءات اللاحدود. والعرب والمسلمون خلال فترة التنوير الغربي، كانوا بمثابة الحاضر الغائب. الحاضر: لأن القاعدة التي بني عليها التنوير الغربي من النواحي العلمية مثل الرياضيات، والكيمياء، والفيزياء والفلك، وغيرها- سبق علماء المسلمين إليها، هذا من ناحية الحضور، ولكن الجمود، والانقسامات،والفساد الإداري، سبب التراجع الذي أصاب الأمة من القرن الخامس عشر الميلادي حتى يومنا هذا، تسبب في الغياب الطويل، وفقدان زمام المبادرة، والابتعاد عن حلبة السباق، وأدى إلى التخلف الذي تعيش فيه الأمة. وأصبحنا عالما متلقيا، ومستهلكا ،لعلوم وانجازات ومنتجات الغير، وبالأصح لحصيلة التنوير الغربي. والمرحلة الراهنة تمنح العالم العربي والأمة الإسلامية جمعاء لحظة المبادرة والاستفادة من تراكمات المعرفة التي أصبحت في حكم المشاع بفضل ما توفره التقنية الحديثة من فرص البحث العلمي عن بعد من خلال الحاسوب، والشبكة العنكبوتية، ووسائل الاتصال بواسطة الأقمار الصناعية،في عالم افتراضي لا حدود، ولا قيود له. ويدعم ذلك توفر الموارد المالية وخاصة في دول الخليج العربي. ولدعم أطروحة عصر التنوير الذي اخترته عنوانا لهذا المقال نذكر العوامل التالية التي تشهدها المملكة العربية السعودية: أولا: التركيز على التعليم العام وما توليه الدولة من جهود وبذل سخي من اجل تحسين المخرجات وشمولية الانتفاع بأحدث الوسائل التربوية المتاحة. ثانيا:التوسع الكبير في فرص التعليم العالي المتمثل في فتح الجامعات والمعاهد العلمية في جميع مناطق المملكة وتزويد الجامعات والمعاهد بالوسائل التقنية التي تمكنها من تطوير مناهجها والرقي بمخرجاتها إلى المستوى الذي يلبي حاجة الوطن للمضي قدما في برامج التنمية والمشاريع العملاقة بادٍ سعودية، توطينا للخبرات واستمرارية للإنتاج والإبداع المحلي. ثالثا: التركيز على البحث العلمي وجعله مشروعا وطنيا لا رجعة فيه،بداية بشحذ همم التنافس بين الجامعات المحلية،وظهور المبادرات لتبني كراسي البحوث العلمية في الجامعات وتحمس رجال الأعمال للمشاركة في تثبيت هذا النهج المشجع. رابعا: انشاء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية والبحث العلمي بصفة استثنائية، لتكون معقلاً رئيسياً لاستقطاب الكفاءات الموهوبة من داخل المملكة وخارجها، من اجل توطين تقاليد البحوث العلمية المتقدمة في شتى المجالات في داخل المملكة، بدلا من الاستمرار في الاعتماد على إمكانية الحصول عليها من خلال التعليم خارج الوطن. خامسا: فتح باب الابتعاث الخارجي للدراسات العليا بشكل غير مسبوق حتى أصبح عدد الدارسين من أبناء وبنات الوطن في الجامعات الأجنبية وفي كل القارات يزيد على ستين ألف طالب وطالبة،واضعين نصب أعينهم التحديات المستقبلية، والفرص الوظيفية التي تنتظرهم بعد تخرجهم وهم متسلحون بشتى المعارف ليشاركوا في مراحل التنمية والعيش الكريم في وطنهم الغالي. يصاحب كل هذه المعطيات حراك أدبي وفكري نشهده من خلال أنشطة النوادي الأدبية، وجمعيات الثقافة والفنون، والمساحة المتاحة لحرية الرأي، والكم الهائل من الترجمة، حيث سينتج عنها، ومن خلالها، نضج التجارب وإثراء الحقل المعرفي، وشمولية المستحقات، وتدافع الاجتهادات، المكملة لبعضها من اجل تشكيل وعي جديد برؤى مستنيرة. ولن تخلو المسيرة من بعض المعوقات المتمسكة برواسب الماضي المثبطة، إما خوفا من المجهول، أو جهلاً بسنن الحياة وديمومة التغيير سعياً للأفضل. فهل هذه لحظة أبناء هذا البلد ليقودوا مرحلة التنوير التي تراودنا في هذه المرحلة؟ وهل تؤدي النظرة المتفائلة إلي بلورة إستراتيجية اجتماعية مبنية على أسس علمية معاصرة بعيداً عن التطرف الذي يعيق جهود الإصلاح والتقدم؟ على هذه الأرضية الصلبة، والقاعدة العريضة من الفرص... التي يقود مسيرتها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز وولي عهده الأمين، وسمو النائب الثاني... يتم إعداد الأجيال القادمة لمواجهة تحديات المستقبل، ليكونوا مشاعل للتنوير الذي ينتظرهم حتى يشاركوا في صنع مستقبلهم ومستقبل أمتهم على أسس علمية، تنشد التفوق العلمي، وتحمل راياتها الخفاقة إلى ذرى الإبداع، وهي محصنة بعقيدة الإسلام التي شحذت همم صناع الحضارة الإسلامية في الماضي وأسست لعصر التنوير الغربي، وليستعيدوا زمام المبادرة من خلال صحوة تنويرية يكونون هم فرسانها... بإذن الله تعالى.