في مثل هذه الأوقات من السنة تكثر المناسبات السعيدة وخاصة حفلات التخرج والانتقال إلى مراحل جديدة في حياة الطلاب وأهمها الخروج إلى المجتمع الخارجي بما يكتنفه من غموض ومصاعب وفرص ونجاحات وخيبات أمل . وعندما دعيت إلى حفل لتخرج طبيبة كانت الأمور في مجملها مختلفة والمفاهيم أكثر إنسانية وأقرب إلى ملامسة الواقع الذي نتمناه . وبرغم فخامة الحفل وجودة تفاصيله إلا أن معناه تعدى ذلك إلى أكبر من مجرد فرحة فتاة مجتهدة وسعادة أم مكافحة ؛ إنه انتصار ثوري على تقليدية فكرنا وأهدافنا الموروثة و التي تحجم عن تشجيع الفتاة على سلوك هذه الطرق المضنية كما يرى المتخاذلون . هو في رأيي ليس نجاحا فرديا بل صورة عائلية داخل إطار الجد والصبر والكفاح . نموذج للنجاح الذي صنعته أسرة بتكاتف أفرادها لخلق بيئة مناسبة عنوانها التفاني والتضحية . إن تخريج طبيبة من بنات بلدي الحبيب هو الوفاء بعهد الولاء والفداء الذي طالما رددناه , وعندما تزينت تلك الشابة وارتدت ثوبها الأبيض خرجت تباركها دعوات والديها للقاء وطنها الشامخ الذي ينتظر بفارغ الصبر أن يرى بعض أمانيه يتحقق ؛ فقد سأم الوجوه الغريبة وأثقلته أخطاء العابثين , وأجزم أنه الآن يفتح ذراعيه بشوق ليعود أبناؤه إلى حضنه الآمن لينعموا بالعيش الكريم في كنفه . وفي خطاب الأب الذي وجهه مسجلا إلى ابنته لم استشعر تفاخرا بقدر ما سمعت كلمات الدعاء الصادق والوصايا الحريصة بتقوى الله وخدمة الوطن وأداء الأمانة على أكمل وجه . أما عندما تلت الطبيبة الواعدة قسم الأطباء ودوى التصفيق في القاعة ؛ اقشعر جلدي لهيبة كلماته وعمقها وعظم ما تحمله من مسؤولية , وتألمت في صمت بسبب تلك النماذج البغيضة ممن يحسبون على مهنة الطب ورددوا في يوم من الأيام هذا القسم الوثيق . في تلك الليلة رأيت لونا يزغرد في العيون وينبض في القلوب , رأيت اللون الأخضر في كل أرجاء المكان . أتمنى أن يكون في مضمون هذا الحفل ( شروق ) لأمل قد خبا في نفوس بعض فتياتنا ممن تعثرت بهن الظروف , وأن يقفن مرة أخرى ليواصلن السير الحثيث مهما تشعبت عندهن الأمنيات المستقبلية لأنهن سيجدن عند كل مفترق طريق وطن شامخ ينتظرهن . تحية إكبار لكل طبيبات بلادي الغالية , وتحية تقدير لكل الأسر التي ربت فلذات أكبادها على حب النجاح والتميز وقبل ذلك على حب الوطن.