عجبت حين كتب الأستاذ عابد خزندار في صحيفة الرياض ذات يوم عن أولئك الذين يعيشون على أكتاف صحراء الربع الخالي محرومين من التعليم والصحة والخدمات التي يحظى بها المواطنون لأنهم لا يحملون إثباتات هوية بينما هم ولدوا وترعرعوا على تراب الوطن منتمين إلى جذور سعودية، وقلت ربما هم نازحون استوطنوا ذلك المكان حتى وإن طال بهم الزمان، لكن المقال يوحي بما يخالف هذا الفهم وإنما هي الرغبة في كسر حدة الشعور بالألم الذي يجتاح من يستشعر حال هؤلاء وكيف يعيشون في لجج الحرمان والانقطاع. وقبل أسابيع كانت الصحف تغطي زيارة فرع جمعية حقوق الإنسان بمنطقة مكةالمكرمة إلى منطقة في ضواحي الليث يعيشون حال أولئك الذين يكاد يطويهم الربع الخالي، لكن هؤلاء ليسوا على أكتاف صحراء إنما هم على مرمى حصاة من الماء الذي يزخر به البحر الأحمر، فكيف وصل الحال بهم إلى أن يحرموا من إثباتات وهم كما تفصح عنه الزيارة وما صاحبها من تعليقات وتطمينات مواطنون، إنما يظل السؤال قائماً كيف يعيشون في أكناف وطن دون أن يتحقق له أو لهم ما تقتضيه المواطنة والوطنية. وقبل أيام نشرت عكاظ خبر وفاة امرأة سعودية في أحد المستشفيات بعد أن أثقلها القهر عن ستة أطفال وزوج في الترحيل لا يجد بلداً يستقبله هناك أو يستوعبه هنا، فاليمن البلد المراد ترحيله إليه يقول ليست لديه أية سجلات مدنية أو إثباتات عنه، وهو في الوقت نفسه ابن عم المتوفاة فأبوه شقيق أبيها السعودي بكل الإثباتات، وهنا المعضلة التي لا تختلف عن قاطني الربع الخالي أو ساحل البحر الأحمر، إلا في لون المأساة التي أخذت أطياف الألم بكل ألوانه الباعثة على المعاناة والحسرة والضياع، بل إن الترحيل خيار في يد البعض حتى وإن حمل المواطن هوية تحمل على صدرها خارطة الوطن من أقصاه إلى أقصاه، وانظر إلى عكاظ قبل أمس. الوطن أوسع من الأرض التي جعل الناس منها قيمة تلامس التراب الذي يمشون عليه ويدفنون فيه موتاهم، لكنهم في كثير من الأحيان يتخذونه مصدر ثروات وكنوز أو واحات ترفيه واستمتاع، إنه أعمق من أن يكون شعاراً يتخذه البعض لتحقيق إشباع ذاتي أو مكسب حياتي، هو فوق الجغرافيا بكل ما فيها من تضاريس ومناخ، وقبل التاريخ بكل ما فيه من أزمنة وأعمار، بل أوسع من كل العلوم التي تستوعب الأرض بمائها وترابها وهوائها. هؤلاء المحرومون من الوطن يعيشون الغربة التي يعاني منها المنفيون من أوطانهم، لكنها الغربة المضاعفة التي تجعل من الحياة علامة استفهام كبيرة جداً، تضم كل علامات الاستفهام الزمانية والمكانية وما قبل الماضي وما بعد المستقبل، وتستحضر كل علامات التعجب، لأن المنفي خارج وطنه يجد الأجوبة لكثير من الأسئلة بل إن الأسئلة مشروعة والأجوبة كذلك واسعة تشمل العديد من المبررات، وقد يكون منها السعة في الانتقال من وطن غربة إلى وطن غربة آخر فتختصر الحياة في رحيل يوسع من مدارك الفهم ويختصر معه الأسئلة. هؤلاء وغيرهم من الذين لا هوية لهم إلا مشاعر الحسرة والضياع والحرمان يحتاجون إلى كل من أدرك قيمة الوطن ملاذاً وقيمة الوطن مسؤولية في الوقت نفسه، حيث يشعر ذو الروح الوطنية بأن عليه مسؤوليات جساماً تقتضي منه أن يعمل وأن يبدع وأن يتقن، تلزمه بأن يكون على ثغرة تحمي بيته الكبير من التمزق ومن التخلف، ولن يكون الوطن وطناً كبيراً وعظيماً إلا بعظمة أبنائه الذين لا يغفلون عنه لحظة فيهوي في قبضة الجهل، وتلك المسؤولية هي التي تحبب الكريم في وطن كريم. هؤلاء المنفيون في الوطن أمانة في عنق كل قادر على أن يقف إلى جانبهم حتى ينالوا ما يجعلهم يسهمون في بناء وطنهم وحمايته والارتقاء به، لأنهم إن بقوا يعيشون خارج الحدود نفسياً ومعنوياً بل ومادياً فسوف يحرم الوطن من ثروة كبيرة كان من الممكن أن تضيف له قوة إلى قوته ومتانة إلى متانته، وبقاؤهم محرومون من الهوية ومن مستحقات له ولهم إنما هي مسؤولية لا يجدر إهمالها أو اعتبارها خارج نطاق الاهتمام.