لا أحد يجهل الدكتور حمد المرزوقي أكاديمياً وإدارياً وكاتباً في الصحافة ومؤلفاً إلى جانب عديد من الندوات والمحاضرات التي كان يلقي فيها الكثير مما شق به الطريق في رحلة البحث التي يتوق إلى ارتيادها الباحثون عن الحقيقة، وربما يرونها ويعايشونها ويتفاعلون مع رواد لها لكنهم ينشغلون عنها أو بها بما يستقر في أذهانهم من المكونات الفكرية التي هي نسيج الشخصية وقوام العقلية التي يقيم المرء حياته على أساسها، حتى يحقق له وجوداً بين المجاورين على كوكب يخالف فيه من يخالف ويوافق من يوافق. كان للرحلة مشقتها لأن فيها عناء الفكر الذي شرق فيه وغرب وبحث به ونقب وأتى بالكثير مما لم يألفه المناخ السائد لكنه في رأي صاحبه يستحق أن يبذل له ما يبذل ويتحمل من أجله ما يتحمل، وكان في ذلك كله يحرص على أن تكون أوراقه للوطن وأفكاره للوطن وهذا في حد ذاته مبرر قوي لجعل كل خلاف مقبولاً القبول الذي يتيح لأهل الدار أن يكونوا معاً وإن اختلفت الرؤى وتنوعت المشارب وكان لكل واحد خيمته التي يتفيأ ظلالها فوق تراب الوطن وتحت سمائه، وطالما أن الفكر هو الرائد في بحث المسلمات والوصول إلى النتائج فهذا مما يشفع للبعض أن يختلف إلى درجة كبيرة. هناك أولئك الذين يقضون شطراً كبيراً من حياتهم تحت ظلال يرونها وارفة وفي أحضان فكر يرونه قويماً يكفي لأن يمدهم بما هم بحاجة إليه من طمأنينة وسكينة، لكنهم ما إن يأتي ما يقلب شيئاً من هذه السكينة أو ينال من هدوء وطمأنينة الظلال حتى يتحولوا إلى هجير يحرق أقدامهم ويحرقوا فيه أقلامهم ويبدأوا في البحث عن شيء يبرر لهم النقلة التي تحققت في حياتهم أو في اقتناعهم، وربما تنكروا لكل ما درجوا عليه في أيامهم الطوال التي عاشوها في ذلك الطريق الآمن المطمئن، ورفعوا كل شعار يقول إننا لم نعد هناك بل نحن هنا: كمن يريد أن يعرف بالمخالفة ليس إلا. أما صاحبنا فكان أمامه ما كان، لكنه وجد أن عليه أن يستمر في البحث والتفكير، بل إنه اختار الغياب كي يتحقق الحضور على نحو يطمئن إليه أولاً، ويطمئن إليه مع من يشاهد الطريق الذي اختار أن يسير عليه، فكان من نتاج ذلك كتابه \"أفي الله شك\"، ثم جاءت المحطة الثانية في كتابه \"من القرآن إلى البرهان\" الذي جاء بحق كما أسماه في العنوان الجانبي: سيرة أمة، وكان أيضاً أصيلاً في الطرح والتحليل بعيداً عن العاطفة التي تفسد أصالة الفكر وإن كان البحث قد اتشح بصفاء الروح الذي يمنح أي بحث قيمة مضافة تتلخص في أنه بحث له روح. والباحث الذي اختار لنفسه طريق التحري والاختبار والوصول إلى نتائج يطمئن إليها لم يتخل عن منهجه ولا يجب أن يتخلى عنه لأنه يجد فيه متعة فوق كل متعة، فجاء الانتقال من القرآن إلى البرهان يدور حول اختبار فروض ثلاثة وضعها الكاتب في مقدمة كتاب امتد على مدى (300) صفحة وكانت الفروض تتناول: طبيعة الرسالة التي كلفت هذه الأمة بها والسنن التي تحكم مسيرتها، وطبيعة المنهاج القرآني لهذه الدولة والعلاقة بين الارتباط به وتحقيق النصر أو الهزيمة، ثم الآثار المترتبة على القوة والضعف في مكانة الأمة بين بقية الأمم ومركز الحضارة أمام الحضارات الأخرى. الكتاب لا يدغدغ المشاعر ويلعب بالأحاسيس ويلهب العواطف، بل يتناول بالحجج والبراهين المواقف والتحولات، ويضع الحلول للمشكلات ويأخذ بالقارئ في طريق طويل بدءاً من سقوط أكبر قوتين على الأرض آنذاك فارس والروم أمام الوافد الجديد وفي أقل من عشرين سنة، ثم الانتشار فالتراجع لكنه يوضح في جلاء الأسباب التي قادت إلى انتصارات أو هزائم وكيفية الأخذ بهذه الأسباب من جديد، مع المرور على المحاولات التي تتابعت على مدى قرن من الزمان في العصر الحديث لكنها لم توصل إلى شيء في استعادة المجد، لأن المحرك الرئيس بقي خارج محاولات الاستعادة هذه. هذا الكتاب من أفضل الكتب في نظري التي استعرضت الأمة في سيرة لا تدعو إلى خدر ولا إلى إحباط بل توضح أن الطريق لا يزال واضح المعالم والسمات وأن القلوب والعقول التي حققت ما حققت من قبل أو في فترات من مسيرة هذه الأمة هي النماذج التي سوف تستفيد منها عقول وقلوب تأتي في أي عصر لتعيد البناء مستفيدة من كل التجارب الجيدة والرديئة، مع التأكيد على أن الذين يتلقون من المنبع مباشرة هم أقدر على أن يحققوا أثراً إيجابياً عالياً لأن صفاء النبع يمنحهم رؤية أشد وضوحاً ونقاء.