حينما قرأت الرواية الثانية ل ليلى الجهني بعنوان \"جاهلية\" (دار الآداب، بيروت، 2007) كانت \"الفردوس اليباب\" تلوح أمامي بأسئلة من نوع:هل تجاوزت هذه تلك ؟ أم أنها منجز جديد يكرس تجربة لا تزال في ربيع العمر؟ وماذا إن كانت تمثل تراجعا عن المنجز السابق؟. فتلك الرواية كانت مفاجأة جميلة للوسط الأدبي حينها. فازت، مستحقة،بجائزة معرض الشارقة حين صدورها. وطبعت لاحقا أكثر من طبعة مما يدل على رواج تداولي محلي وعربي. ثم تعزز هذا الجانب باختيارها لتصدر ضمن مشروع \"كتاب في جريدة\" الذي عادة ما يوزع مئات آلاف النسخ بأكثر من لغة (سعدت بكتابة مقدمة موجزة عنها وعن كاتبتها). وعندما حللتها، مع روايات أخرى، ضمن بحث أكاديمي تأكد لي مدى تميزها كعمل أول لكاتبة لم يكن لها حضور قوي في الوسط الأدبي (طرح آنذاك التساؤل البليد المعتاد عما إذا كان اسم ليلى قناعا لكاتب رجل!) . قبل اسبوعين فحسب أشرت إليها ضمن مقالة عن \"الآخرون\" كأحد الأعمال الروائية التي أضافت جديدا إلى منجزنا السابق في العقد الأخير. كان لا بد إذن أن تشارك تلك الرواية بقوة في رسم أفق الانتظار لهذه،وعند الناقد المتخصص كما عند القارىء العادي. هنا تحديدا تبرز المشكلة التي ربما شكل الوعي بها خطوة ضرورية لطرحها قضية يثيرها النقد العارف ولا يحسمها سوى الكتابات الإبداعية ذاتها. فمن منظور نقدي لا بد أن لكل نص كينونته الخاصة. والناقد يفترض أن يحاوره لتحديد وتحليل سمات الخصوصية التي عادة ما تميزه عن غيره ، سواء كان من منجز الذات أو من منجزات الآخرين. لكنه من الصعب، إن لم يكن من المتعذر، التحرر كليا من ذلك الأفق الذي يضغط على القراءة بقدر ما يسمح لها بالتحقق. ومن منظور الإبداع لا بد أن قلقا ما كان حاضرا في مجال الوعي أو في خلفيته فيما الذات تكتب روايتها الثانية. هذا ما قصدته حينما أشرت في المقالة الآنف ذكرها الى التحديات التي تجابه الكتاب والكاتبات من جيل الشباب الذين يبدأون من الذروة. فالمنجز الذي يتم الاحتفاء به يمثل تحديا جديا أمام الذات التي تعي كغيرها أنها أصبحت مطالبة بتجاوزه أو بتكريسه كي لا تتراجع أو تصبح من أصحاب \"الواحدة\". إذن ربما كان \"قلق التجاوز\" هذا لا أقل وجاهة نظرية وعملية من \"قلق التأثر\" بالأسلاف،الذي يحفز المبدع ويحايث كل إبداع متميز كما بينه هارولد بلوم. قال ماركيز ذات يوم، ودون افتعال أو تواضع،إنه كتب وفي نيته أن يحطم صنم سرفانتس سلفه العظيم. الطيب صالح شكا مرارا من هيمنة \"موسم الهجرة إلى الشمال\"، وبطلها الإشكالي مصطفى سعيد،على كتاباته وشخوصه اللاحقة. أما إبراهيم الكوني فظل ينوع على تجربة واحدة ليس لها أسلاف غير أسلافه هو. لنحاور الرواية قبل أن نعود إلى هذه القضية التي تستحق المزيد من البحث . القراءة الأولى تكشف أن الكتابة موجهة بمقصدية التأمل الذاتي الحر في قضية ذات أبعاد متنوعة يلوح بها عنوان النص ذاته. فالجاهلية ليست حقبة من التاريخ مضت بكل أفكارها وقيمها وتصوراتها كما قد يظن بعض،وكما يقال ويكتب دائما. هناك أحداث عالمية ومحلية ذكرت الكاتبة بتلك الأزمنة الكئيبة وهنا المفارقة المؤسسة لهذا النص تحديدا. الحدث العالمي هو حرب أمريكا على العراق بدعوى تحرير الكويت ثم بدعوى محاربة الإرهاب والتصدي لمحور الشر الذي يدعمه وينذر بالمزيد منه بمجرد تملكه لأسلحة الدمار الشامل. والحدث المحلي الصغير يتمثل في علاقة عاطفية تنشأ بين فتاة تمثل \"الأصيل\" حتى في اسمها (لينة = النخلة)، وشاب من أصول إفريقية يمثل \"الدخيل\" أو الأجنبي اسمه مالك (وهو اسم لا يخلو من بعد رمزي أيضا) لكنها تظل دون أفق، بل وتنقلب إلى مسار تراجيدي فاجع. فهذا النمط من العلاقات كان ولايزال مرفوضا لأن كثيرين يعترضون عليه باسم أفكار وقيم وتقاليد تبدو سامية أو سوية للرأي السائد لكنها تظل من صميم الثقافة الجاهلية الجاهلة عند الكاتبة وأمثالها. الحدث الأول يأتي موجزا كخبر استهلالي منقول عن وسائل الإعلام العالمية ولذا فهو لا يشكل إطارا أو موجها للحدث الروائي الأهم الذي يهيمن في المتن بقدر يحقق الوصل بين جاهلية الذات وجاهلية الآخر. بصيغة أكثر دقة نقول إن لعبة الكتابة أو استراتيجيتها الأساسية تنهض على مساءلة الثقافة المحلية إذ تموضع على محور رأسي يمكن الذات الكاتبة من الحفر في طبقات ذاكرة جماعية مليئة بالتناقضات والمفارقات التي يراد لها أن تبرز في مجال الوعي العام . أما الحدث العابر على المحور الأفقي فيحضر، أويستحضر، لتوسيع الرؤية وفتح عملية السرد على أفق ممتد من \"هنا\" إلى فضاءات بعيدة تقربها تقنيات التواصل والعنف فتبدو أخبارها جزءا من الحياة اليومية بالنسبة للذات الساردة وغيرها. إننا أمام لعبة سردية مركبة يبنيها الوعي بصرامة وتحاول الكتابة تبريرها وفق منطق المتخيل وممكناته. من هذا المنظور اختارت الكاتبة بنيات زمنية ومكانية وأحداثية مزدوجة متداخلة تشخص القضية الواقعية وتتقصى أبعادها الدلالية. فالزمن يتحدد مرة بأشهر عربية قديمة نسيت تسمياتها لكنها محفوظة في بطون كتب التراث وكجزء من مخزونات أرشيف حي ينتظر من ينعشه فحسب. ثم يحدد مرة أخرى بزمن الحرب \"عاصفة الصحراء\" المتصلة مباشرة بالتاريخ الميلادي السائد في الغرب المهيمن على عالم اليوم. ومرة ثالثة بزمن الساعة الذي تتم فيه عملية الكتابة ويتصل بالذات الساردة ومنها يكتسب خصوصيته كزمن ذهني ونفسي يتحدد بآخر الليل دائما (وقت النوم والراحة للبعض،ووقت المعاناة والأرق لآخرين). البنية المكانية لا أقل تعددا وتداخلا إذ يراد لها أن تبرز المفارقات وتصعدها بصيغ وفي مستويات مختلفة . فالأحداث الأساسية تدور في المدينةالمنورة (دارالإسلام ونواة دولته الأولى)، وفي داخل هذا الفضاء العام تبرز تسميات لأمكنة أكثر تحديدا -أهمها الشارع، المستشفى، غرفة النوم - تستمد دلالاتها من توزعها بين القديم والحديث، العام والخاص، وبين المقدس والدنيوي كما يلاحظ. وفي فضاءات كهذه يفترض أن يعي البشر أنهم مواطنون مسلمون يتساوون في الحقوق والواجبات،وأن العلاقات بين أفرادهم تخضع لمعايير الانتماء إلى فضاء مديني حضري عريق يتجاوز التراتبيات التقليدية وينفي خبث ماهو جاهلي منها بشكل خاص . هذه الافتراضات حاضرة بوضوح في وعي الفتاة الموظفة ذات الشخصية الهادئة والنزعة الإنسانية القوية، وفي وعي صديقها الشاب الصحفي المثقف الذي يحبها ويريد الاقتران بها وفق منطق الشرع . لكنها غائبة عن الوعي الجماعي السائد الذي تلح ثقافته الرسمية على مثل دينية ووطنية عليا تليق بمكان مقدس وحضري كهذا، وتلح ثقافته الشعبية ،في شق، على أفكار وقيم قبلية عتيقة لا تخفي تحيزها ضد المرأة وضد الآخر الأجنبي عموما!. ويتصل منطق المفارقات ويتعمق حينما تتنزل الثقافة الرمزية في مواقف الشخوص التي تباشر الفعل وتشخص الحدث السردي عمليا. فالأب الذي عادة ما يمثل ثقافة الرجل ويحتكر سلطاته في بيت العائلة يبدو متسامحا محبا لابنته من جهة،ومتخوفا من \"كلام الناس\" من جهة أخرى، ولذا يأتي موقفه مترددا ينوس بين الرفض والتفهم . والأم، التي ينتظر أن تكون الأقرب إلى حياة ابنتها والأقدر على تفهم مشاعرها ، تبدو أكثر وضوحا وصرامة في مواقفها الرافضة لأي علاقة من هذا النمط إما لأنها تشك في أهلية الأنثى التي تمثلها ابنتها، أو لأنها تتخوف من فضيحة ربما تحملت وزرها الأكبر في مجتمع يماهي بين صورة الأم والبنت (وكلهن نساء كما كتبت ليلى الأحيدب من قبل)!.