في كتابه الممتع والسهل الممتنع (دراسات في الشعر)، ذكر العبقري الفيلسوف د. عبدالوهاب المسيري -رحمه الله- قصة عجيبة وطريفة.. يقول فيها: «أذكر مرة أنني كنتُ منتدبًا في إحدى الجامعات العربية لتدريس الأدب الإنجليزي، وكان كتابي (الأيدلوجية الصهيونية: دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة) مقررًا في قسم الاجتماع في هذه الجامعة، ومع هذا لم يسمح لي بتدريس هذا المقرر في الجامعة نفسها، لأنني لم أحصل على الدكتوراة في العلوم السياسية)!! تمر على الإنسان مئات القصص التي يقرأها، أو يعاصر أصحابها، وهي في الحقيقة تمثل حالة وعي حقيقي، وتأخذ بالإنسان السوي إلى (الوعي بالذات) كما يعبر الفيلسوف (هيجل)، ليحركه ذلك الوعي نحو التطور. إن الكثير من أبناء هذا الجيل مبتور الصلة بكتب التاريخ والسير، واستلهامات سيرة الحياة التي عاشها أصحابها الذين صرنا نكثر النقل عنهم أكثر من نقلنا عن الأحياء، إذا نحن أردنا أن نفهم الحياة! وإن كنت أنسى فلن أنسى تلك الحوارات مع بعض الشباب الذين سلكوا سبيل العنف داخل السجون، وكنت فيما أقول لبعضهم هل مرت عليك حادثة كذا في بلد كذا، وحادثة كذا في بلد كذا؟ وكلها حوادث قريبة، وكتبت عنها عشرات الكتب! ولكنهم -وللأسف- لم يعرفوا عنها شيئًا، ولأول مرة يسمعون عن أخبارها وأحوال أهلها، هي نفس أخبارهم، وما آل إليه حالهم! لقد أبدع الفيلسوف (أرسطو) عندما ذكر أن فضيلة أي مجتمع تعود للفضيلة الفكرية والخُلقية، وأن الفضيلة الفكرية تكون بالتعليم، بينما تكون الفضيلة الخلقية بالتعويد. إن الشباب اليوم بحاجة إلى هاتين الفضيلتين اللتين تتكونان في مشاعرهم، وتتشكلان في عقولهم، وتتدفقان مع سلوكهم، وهما باختصار: (التعليم والتعويد). والحقيقة أن كتب السير والتراجم الحاملة لبذور الفكر وثمرات التجربة يمكن أن تحقق فضيلتي (التعليم والتعويد) من خلال عشرات القصص التي تبعث الأمل، وترقي الفكر، وتحيي الهمم، وتصحح التصور، وترسل رسائلها وشحناتها المؤثرة في نفوس قرائها. ونتيجة لخطورة وأثر هذه القضية أرسل د.المسيري أمنيته للمفكرين قائلاً: «إني لأتوجّه بالدعوة للمفكرين العرب أن يكتبوا سيرهم غير الذاتية التي تحتوي على تلخيص لأفكارهم وبذورها وكيفية تشكلها، ليضعوا خبرتهم تحت تصرف الأجيال الجديدة. وممّا يجعل المسألة أكثر إلحاحًا، هو تعاظم الفجوة بين الأجيال ممّا يؤدي إلى عدم توارث الحكمة والمعرفة، وأخشى ما أخشاه أن تبدأ الأجيال القادمة من نقطة الصفر»!