الثقافة الخلاقة كلها تقاوم الشر ورموزه ، وفي الذات وخارجها . وهذه ليست نظرة مثالية أو ميتافيزيقية بل هي في الصميم من إنسانية الإنسان وتاريخية الثقافة . فالمبدعون في مجالات الفكر والفن في كل مكان وزمان حاولوا دائما تهذيب سلوك البشر بإبعاده عن منطق الغرائز الأولية وما ينتج عنها من تصرفات قد تعيد الإنسان إلى رتبة الحيوان . بعضهم يلح على مقولات عقلانية تعلي من شأن منطق التعقل الذي هو أساس كل خلق فاضل ، والبعض الآخر يلح على صور متخيلة تروم تحويل كل انفعال إلى فعل جمالي خلاق لأن هذا هو الإبداع بكل بساطة. وحينما كررت ، في غير مناسبة ، أن الفكر يعقلن والفن يؤنسن كنت أعني أننا سنظل في أمس الحاجة إلى المزيد من الفكر والمزيد من الإبداع لأن الرهان على القيم العليا يظل جهدا يوميا مفتوحا ، بل إنه التحدي الذي يواجهنا كل لحظة في كل مكان ومع كل آخر . فنحن لسنا من رتبة الملائكة لسوء الحظ . إننا كائنات خطاءة باستمرار ، والموتى وحدهم لا يخطئون ( ولا يصيبون أيضا ). هذه مقدمة للتعليق على حدث كنت طرفا فيه وغائبا عنه في الوقت نفسه . فقد طلبت مني الصديقة الوفية منيرة الموصلي المشاركة في فعالية مصاحبة لمعرض فني استعار من أطفال غزة مبرره وتسميته . وكيف لا أشارك في التعبيرعن ألمي وتعاطفي مع أولئك الضحايا الأبرياء ولو بكلمة ؟. وأتساءل بهذه الصيغة لأنني لو دعيت إلى شيء من هذا مرة كل أسبوع أو كل شهر لما ترددت . فكل ما قدمناه ونقدمه لن يكفي حتى تختفي تلك المأساة التي ظلت ، ومنذ طفولتنا ، تنمو في عقولنا وقلوبنا وأجسادنا كنبتة خبيثة لا ندري متى وكيف الخلاص منها . أما مضمون المشاركة فالشيء المنطقي والطبيعي أن يحدده كل منا بحسب رؤيته وفكره وموقفه . ولو حرص كل منا على أن يقول ما ينتظره الآخرون فلا أظننا سنضيف جديدا ومفيدا لبعضنا البعض . هنا تبرز القضية التي تسللت الأسبوع الماضي من قاعة النادي الأدبي بالرياض إلى بعض الصحف فيما أنا في باريس . فقد ركزت في ورقتي بعنوان طفولة الفن على قضايا تدور كلها حول تلك الوظيفة التي لا أعرف غيرها لأي ثقافة ولأي إبداع . ويبدو أن بعض المعلقين لم ترقه حكاية المقاومة بالثقافة لأن المقاومة الوحيدة التي يعرفها أو يعترف بها هي باستعمال السلاح وحده لا شريك له !. لا بأس . كثيرون يفكرون هكذا . وأكثر منهم الذين يحسنون النضال من فوق المنابر العالية وداخل الصالات الأنيقة المكيفة . لكني أفضل شيئا آخر. فأنا أعترف بأن حذري من كل سلاح تحول أخيرا إلى كراهية للكلمة وللشيء في الوقت ذاته . فكلاهما قبيح مخيف . وخاصة حينما تنفلت أدوات القتل هذه من يد الدولة إلى أيادي الأفراد والجماعات . ولو تمنيت شيئا اليوم لخدمة الأمة كلها لما بدأت بغير أن ننام لنصحو على خبر يفيد بأن أيادي الناس في غزة والعراق والصومال والسودان واليمن وو...مليئة بالأقلام والمراسم ليكتبوا ويرسموا لا غير . فالفرد السعيد هو الذي يعيش ويموت دون أن يرى سلاحا . والطفل الأسعد هو من تمتلئ الفضاءات من حوله بالكلمات الجميلة والصور الملونة التي قد تغريه بالمزيد من الإبداع لاحقا . نعم ، من حق كل أحد أن يفكر كما يرى ويتصرف كما يريد . لكن من واجب كل مثقف يحترم ذاته وثقافته أن يدرك جيدا أن الحق نفسه يشمل غيره . وإذا ما ركبنا مطايا المزايدة والتشكيك في النوايا فلن يصبح الحوار بين الآراء ممكنا ومثمرا . بل ربما يتحول كل جدل إلى جزء من لغة الحرب التي يفترض أن يكرهها المثقف وينفر منها المبدع ، لأنها ضد كل ثقافة وكل إبداع . وإلا فما ذا يتبقى لزعماء الأحزاب ورجال السياسة وتجار الأسلحة ؟! . ليتك كنت هناك يا صديقي بورخيس .