أزعم يقينًا أنَّ معالجة قضايا الأمّة كبيرها وصغيرها، وجليلها ودقيقها تحتاج إلى رؤية فكريّة لا تقوم على جهود فرديّة أحديّة الجانب والمعالجة؛ بل إلى مجهودات جماعيّة متخصّصة ذات خبرة ودربة ودراية، يشارك فيه نخبة من رجالات الدِّين والفكر والتّربية والإعلام وعلماء الاجتماع. ولا زلت أؤمن أنَّنا نمرّ بمرحلة مخاضٍ في كل الجوانب الفكريّة والثقافيّة والإعلاميّة ما سيشكّل في الجملة مشروعًا قائمًا يخرجنا من زمرة المتخلّفين إلى زمرة المتقدّمين. ولا زلت أزعم كذلك أنّنا نعيش فترة من أزهى الفترات انفتاحًا وإصلاحًا؛ سعيًا نحو الانعتاق من لغة (النّعيق) و(النهيق)، وقاموس (السّباب) و(النّواح) وإذ بتلك اللّغة تبدو حاضرةً بكل جلاء، ساقطة من حسابها لغة العقل، ومقومات اللّحمة الدينيّة والوطنيّة. ولقد استبشر العقلاء في وطننا العزيز بأفول اللّغة الأحاديّة، والرؤية المتفرّدة، والنّبرة المستفزّة، فسارع المصلحون كلٌّ بحسب معطياته لتحقيق ما يطمح إليه المخلصون؛ تقدمًا لا تخلفًا. وإذ بنا (نفاجأ) أنًّ هناك بقايا (عفنٍ) عقلي، و(خبث) فكري متدثراً عباءة الدِّين، ومتلبساً ثوب الوقار، ومتستراً ألوان المشيخة، يظهر في الملأ، ويتربع في الفضاء مكرسًا خطابًا استهلاكيًّا استفزازيًّا يقوم على (السوقيّة) في الطرح والمعالجة؛ وكأنَّ قضايا الأمّة لا تقوم إلاَّ على القاموس السوقيّ لفظًا وجمْلةً. فإلى عهد ليس ببعيد كنت أزعم كما يزعم العقلاء أنَّ القاموس السوقيّ لا يستحق تلك الحفاوة إلاَّ عند (خفافيش الانترنت) ظنًا منّي بأفوله إلاَّ في قاموس الدّهماء والرعاع ومجالس التندّر والتّفكّه!! فهل يعقل أن يغيب القاموس العربي إلاَّ من هكذا ألفاظ ك (تافه)، و(حقير)، و(وضيع)، و(حمار) و(بغل) وما شاكلها في معالجة قضايا الأمّة؟!! إنَّ أصحاب هذا القاموس يظنون تعلقًا ب(شهرة) و( ذيوع) أنَّهم يريدون خيرًا بالأمّة ومصالحها ومراشدها، ويقولون ذلك بما يسعه طغيانهم على القول، واتّساعهم في الكلام، واقتدارهم على الثرثرة حتّى إذا فتشت وحققت لم تجد في أقوالهم إلاَّ ذواتهم، وأغراضهم، وأهواءهم؛ يريدون أن يبتلوا بها النّاس في دينهم وأخلاقهم، ( كالمسلول يصافحك ليبلغك تحيته فلا يبلغك إلاَّ مرضه وأسباب موته!) قل لي بربك؛ ماذا سنجني من خطاب لا يخرج من جوفه سوى ذلك العفن اللفظي هو في المحصلة أقرب إلى لغة الباعة في سوق النخاسة والنخاسين؟! ثم قل لي بربك؛ ماذا سنحصد من خطاب لا تقرأه ببواطن العقل؛ بل بلغة الدّهماء والرعاع في سوق المتجوّلين حين يسوّقون لبضاعة مزجاة؟! ألم يستوعب أولئك الجهلة بعْدُ أنَّ تلك البضاعة المزجاة أصابها العفن فبارت على ظهور الحاملين لها، والمعتقدين برواجها؟!! وإنْ كنت أعتقد بوجود هكذا خطاب (البضاعة المزجاة) في مقالات خفافيش الانترنت فلا أظنه حاضراً في بعض القنوات المحسوبة على الدِّين وتوعية الأمّة بقضاياها؛ حتّى (داهمتنا) إحداها بخطاب الدّهماء والجهلة مُحمّلةً بها، ومتربعة بعنوان مقروء يحمل في ثناياه ضياع الهدف المرجو، والتّسلق الممقوت، والشهرة الزائفة. كل ذلك يتبدى فيما نحسب أننا تجاوزنا تلك المرحلة وتخطينا تلك اللغة مباركين لأنفسنا جميعا هذا الانفتاح الإعلامي، ولكن البعض من الجهلة أبى إلا إسقاط أنفسهم في أتون خطاب الديكة ظنا بالتفوق وزعما نحو الريادة والنجاعة، إذا بنا نعود إلى الوراء محملين بخطاب سوقي ساقط بمباركة بعض القنوات الناشئة ويعده بعض مقدمي البرامج الدينية سعيا نحو الشهرة والذيوع. ونسوا أن الشهرة أبوبها مفتوحة للمضلّلين، ومسلكها سهل المنال للكذّابين فلا عليك سوى أن تُسلط لسانك على كل من يُخالفك ونعته بكل الألفاظ السوقيّة على شاكلة: (البصاق) و(البغال)، و(الحمير)، و(الجرذان) و(التافهين)، و(الحقيرين).. وهلم جرا؛ ثم أردفها بشراء بعض المأجورين والمروجين فتأتيك الشهرة ساعيةً بلا نعلين!!. وإن حاولت أن ترتقي قليلاً فما عليك سوى أن تبتاع شهادة دكتوراة من دكاكين محبي المال، وطباعة مجموعة غير قليلة من كروت الدعاية والتّرويج، تتبعها بجلسة تملأها ب(الخنفشارية) ففي الصباح (بارك) الانفتاح الإعلامي، وفي الظهيرة (ادع) إلى الوسطيّة، وفي المساء ( داعب) الاثنين معًا وآخذًا بالمثل العربي الشهير ( مع الخيل يا شقراء).