الأيام الماضية، شهدت أحداثًا متلاحقة في غزة. عمليات قتل المدنيين، وسقوط أعداد أخرى من المقاومين الفلسطينيين، عادت للتواصل رغم كل الأحاديث التي جرت حول التهدئة، حتى لم يعد يمر يوم إلا والأنباء تحمل أعداداً جديدة من الشهداء، بل إن اليوم الواحد أصبحت تحمل ساعاته ال 24 أحداثًا متلاحقة نهاراً وليلاً، يسقط فيها الشهداء. وفي أحوال وأوضاع المعيشة اليومية، أصبحت وقائع الخنق بالحصار، تملأ التقارير الإخبارية في كل وسائل الإعلام. وقد وصلت النتائج المروعة للحصار والحرب الاقتصادية عليها إلى درجة أن المنظمات الدولية، باتت تجاهر بالمشاهد المروعة للحصار، ولم يعد صوتها خافتاً كما كان عليه الحال من قبل. وهنا، وفي ظل كل تلك الأوضاع والمآسي، يبدو الأمر اللافت والتطور المميز لأوضاع غزة، هو أن مقاوميها ورغم هذا الوضع المرعب، ومن بين أنقاضه، قد أدخلوا المعركة حول غزة إلى وضع جديد وحالة جديدة، باتت فيها قوة الردع والهجوم الإسرائيلية - وفق الوتائر الحالية للهجمات والاعتداءات التي يشنها الجيش الإسرائيلي - ذاهبة إلى حالة من التآكل، إلى درجة لا شك أنها باتت تمثل هاجسًا مخيفًا للقادة الإسرائيليين على صعيد تقييمهم للوضع الراهن، وفي الرؤية المستقبلية. فما جرى من عمليات للمقاومة في غزة، دفاعًا ضد التوغلات الإسرائيلية من خلال كمائن مستترة نجحت في الإيقاع بالجنود الإسرائيليين المهاجمين، وهجومًا على بعض التجمعات والقواعد الثابتة لجيش الاحتلال الإسرائيلي قرب "أسوار" غزة - كما هو الحال في عملية معبر المنطار - باتت تشير إلى تطور نوعي في نشاط المقاومة، دفاعاً وهجوماً، وإلى أن الجيش الإسرائيلي باتت أهم نقاط قوته - وهي امتلاك التكنولوجيا المتقدمة والمتفوقة لأبعد حد - في وضع أمكن اختراقها، بل في وضع تعددت عمليات اختراقه مرات متعددة، بما يدفع لإعادة النظر في أماكن تمركز الجيش الإسرائيلي قرب أسوار غزة - وليس فقط لإعادة النظر في طبيعة التحصينات وعمليات المراقبة - ولوقف الهجمات والتسلل البري الذي كانت اعتمدته القيادة العسكرية الإسرائيلية كوسيلة إنهاك يومي للمقاومة الفلسطينية في غزة. ومن الأصل قد تدفع تلك الأوضاع القيادة الإسرائيلية إلى تغيير استراتيجيتها والتحول نحو "الاعتراف" والميل نحو التهدئة. ذلك أن المقاومة لم تسجل فقط، قدرة على قتل وإصابة أعداد متزايدة من الجنود الإسرائيليين من خلال الكمائن داخل أراضي غزة، وخلال الهجمات خارج أسوار غزة المحاصرة، ولكن أيضًا لأن كل عملية قامت بها المقاومة في الآونة الأخيرة، باتت تجري وفق تكتيكات متغيرة ومفاجئة إلى حد المباغتة، وإلى درجة جعلت الجيش الإسرائيلي يتعامل مع كل منها كمعركة حربية مستقلة، تتدخل فيها الوسائل القتالية الأخرى، وأهمها طائرات الهليكوبتر. وكذا لأن المغزى الاستراتيجي للتطور النوعي في عمليات المقاومة، هو تحديدًا في كسر استراتيجية الهجوم الإسرائيلية التي اعتمدت في المرحلة الأخيرة لإنهاك المقاومة عبر تشتيت جهدها - من خلال الهجوم في مناطق متعددة متباعدة المساحات والاتجاهات - وتحويلها إلى وضع مضاد، سواء باصطياد بعض الجنود الإسرائيليين المتقدمين في داخل أراضي غزة، في كمائن محكمة سريعة الفعل لا تجدي مع عملية الاستعانة بالأسلحة الأخرى، أو من خلال قيام المقاومة بعمليات هجوم على القواعد الثابتة التي تنطلق منها الهجمات البرية على غزة. وأيضاً، لأن مثل هذه التطورات باتت تحمل مقومات لتحول المقاومة إلى حالة الهجوم المضاد، إذ هي لم تتوقف خلال الهجوم الإسرائيلي عن استخدام أي من أسلحتها، خاصة سلاح الصواريخ محلية الصنع التي كان وقفها أحد الأهداف المباشرة للعمليات الإسرائيلية. الهجوم داخل الأسوار منذ أن فشلت استراتيجية الاستيلاء على القلعة من داخلها، أي على غزة من داخلها، عبر مخطط "دايتون" الذي حاول تنفيذه بعض مسؤولي الأمن في السلطة، تحولت إسرائيل إلى استراتيجية إنهاك القلعة حتى سقوطها، وفي ذلك اعتمدت على العمل الاستخباري في داخل غزة لقتل الرموز الفلسطينية، وعلى خطة عسكرية تقوم على التوغل المستمر لقواتها في داخل أطراف قطاع غزة من كل الاتجاهات - حتى من اتجاه البحر عبر القصف - لتحويل المقاومة إلى حالة الدفاع المستمر، ولإنهاكها بشكل مستمر، وذلك كله مع استمرار الهجمات اليومية من الجو، والحصار الخانق من الخارج؛ لإنهاك المجتمع الفلسطيني لا المقاومة فقط. كان فشل مخطط "دايتون" للانقلاب العسكري في داخل غزة، فشلاً استراتيجياً خطيراً، إذ لم يكن ما جرى في غزة هو حالة خلاف وصراع داخلي انتهى لمصلحة حماس ومن يساندها، بل كانت معركة استراتيجية بالمعنى الشامل، شاركت فيها الولاياتالمتحدة وإسرائيل وأفراد من السلطة الفلسطينية، كما هي شملت كل مجالات الصراع السياسية والاقتصادية والاستخبارية والإعلامية والنفسية، وكذا باعتبار أنها استهدفت إحداث تغيير استراتيجي شامل للأوضاع الفلسطينية تمكن السلطة الفلسطينية من السير في مخطط التسوية وفق الشروط الأمريكية والإسرائيلية. وبقدر ما كانت تلك الهزيمة ذات طابع استراتيجي شامل للأطراف المشاركة فيها، بقدر ما كان الانتصار لطرف المقاومة الفلسطينية كبيراً وشاملاً، خاصة وأن الانتصار حدث دون امتلاك قدرات عسكرية واقتصادية مناسبة "مادياً" لإحراز هذا الانتصار. ولذا كان الرد الإسرائيلي على فشل الخطة السابقة، هو وضع خطة جديدة، تغير ما عجزت عن تغييره الخطة التي فشلت، وتعطل تفعيل الانتصار الذي حصلت عليه المقاومة جراء هزيمة الخطة الإسرائيلية الأمريكية، وبهدف أن تعود بالأوضاع إلى ما كانت عليه قبل وصول حماس للسلطة، من الأصل. وكانت تلك الخطة هي ما شاهدناه طوال الشهور الماضية، من تشديد للحصار الاقتصادي والسياسي، وتفعيل للانقسام الفلسطيني من خلال التفاوض مع "عباس" على أساس منع التقارب مع حماس، والهجوم والضغط العسكري، من خارج الأسوار، ومن اتجاهات متعددة ومن الجو.. إلخ. وهنا تأتي النجاحات التي أحرزتها المقاومة الفلسطينية في المرحلة الراهنة ذات أبعاد ودلالات متعددة، باعتبار أنها جاءت تطويراً لانتصارات سابقة ذات طابع استراتيجي، تمثلت في إجبار القوات الإسرائيلية على الانسحاب من غزة، وبالنظر إلى أنها تأتي تطويراً لما بعد إسقاط الخطة الاستراتيجية للاستيلاء على القلعة من الداخل، وكذا بالنظر إلى أنها تمثل إحرازًا لانتصارات تجاه النقطة الأقوى لدى إسرائيل في المواجهة، أي الجيش، الذي كان أداة الفعل المباشر في الخطة الراهنة التي استهدفت "إسقاط المقاومة عسكرياً" بقصف القلعة من الخارج والضغط عليها حتى الاستسلام. خطة مضادة لاتزال النقطة المحورية التي تحكم فعل المقاومة عسكريًا، هي أنها لا تملك سلاحًا لمواجهة طائرات الهليوكبتر الإسرائيلية، وذلك ما يحقق لإسرائيل دومًا القدرة على الهجوم على كل متحرك على أرض غزة، خاصة في ظل امتلاك إسرائيل قدرة تكنولوجية على الرصد الدائم للقيادات وأفراد المقاومة من خلال كاميرات مراقبة. لكن المقاومة في الآونة الأخيرة، باتت تحقق قدراً من النجاح في التغلب على هذه الميزة العسكرية المباشرة لدى القوات الإسرائيلية، بل إن العمليات الأخيرة للمقاومة باتت تسجل تفوقًا في مجالات الإخفاء والتمويه، إلى درجة لاشك أنها باتت تصيب المخطط الإسرائيلي بالحيرة. وفي الزاوية العامة، فإن البادي من متابعة ما يجري في غزة أو ضدها، هو أن المقاومة قد حددت لنفسها خطة مضادة للخطة الإسرائيلية الجديدة - ما بعد فشل خطة الانقلاب من داخل القلعة وإسقاطها من الداخل - تعتمد "الهجوم خارج أسوار غزة"، لتحويل الجيش الإسرائيلي إلى حالة الدفاع عن نفسه، ولجعله في حالة استنفار دائم ترهقه وتنهكه، كما تقوم على تحقيق حالة دفاع نشطة من خلال الكمائن المتحركة التي تستهدف "اصطياد" جنود الجيش الإسرائيلي الذين يقومون بعمليات الهجوم والتوغل البري، التي تجري لتنفيذ عمليات تستهدف المقاومة، وفق قواعد حركة مخفية وغير ظاهرة، وهي كانت وسيلة هجوم خطيرة على المستويات العسكرية والنفسية أيضًا، حتى تمكنت المقاومة من تحويلها إلى حالة مضادة. في النموذج الأول - الدفاع عن القلعة بالهجوم على ما حولها - جرت عملية معبر المنطار - ناحاك عوز، كارمن - التي قامت فيها المقاومة بالهجوم على نقطة حصينة ثابتة للقوات الإسرائيلية على حدود غزة، وقتل وجرح عدد من الجنود، ثم الانسحاب الآمن إلى داخل حدود غزة. في تلك العملية بدت المقاومة أشد قدرة على التخطيط في الهجوم والانسحاب - وليس فقط في الهجوم - كما أبدت قدرة ومهارة جديدة في التنسيق بين فصائل العمل المقاوم، إذ جرت العملية بالاتفاق والتخطيط بين أربعة أجنحة، تولت إحداها التغطية بالقصف المدفعي، خلال الهجوم والانسحاب، وتولت الثلاث الأخرى تنفيذ العملية. كما المقاومة أظهرت نمطًا جديدًا من العمل يجري خلاله المحافظة على أرواح المقاومين، بما يظهر مدى قدرتها على التخطيط الأوسع والأعمق، إذ كانت العمليات السابقة تقوم على عدم القدرة على العودة من مكان العملية، وكذا هو يظهر مدى القدرة على إفشال قدرة الوسائل التكنولوجية الإسرائيلية في المراقبة والرصد والمتابعة. وفي تفعيل الكمائن لاصطياد مجموعات الجنود الإسرائيليين المتسللين للقيام بعمليات قتل وتخريب داخل غزة، نجد المثال فيما جرى يوم الثلاثاء الماضي، حين تمكن "كمين" مقاوم من اصطياد قوة إسرائيلية متوغلة، والاشتباك معها، وقتل 3 جنود وإصابة 5 آخرين، بما حقق ضربة عسكرية ونفسية لقوات الاحتلال، لاشك ستربك هذا النمط من التسللات، سواء على المستوى التكتيكي أو العملياتي، أو على حالة الروح المعنوية للجنود المكلفين بمثل هذه المهمات، خاصة وأن هذه العملية جاءت امتداداً لعمليات سابقة خلال الأيام القليلة الماضية، جاءت نتائجها مشابهة لتلك العملية. تآكل قوة الردع وإذا تركنا تفاصيل ما يجري، على صعيد خطط قوات الاحتلال أو خطط المقاومة من جانب آخر، فإن الحصيلة الاستراتيجية لتطور الأوضاع، تشير إلى تآكل قوة الردع الإسرائيلية، ولا نقول فقط أن ما يجري يسبب تآكل قوة الهجوم الإسرائيلية. والقصد، أن المقاومة قد تحولت إلى حالة الهجوم بعد أن كسرت استراتيجية الجيش الإسرائيلي في الهجوم، وأن قوة الردع الإسرائيلية لم تعد قادرة على منع المقاومة من الهجوم خارج أسوار القلعة وإيقاع الإصابات والقتلى، وهو تطور لا شك هام للغاية، ويؤذن بفتح مجال العمل أمام المقاومة على نحو أخطر من ذي قبل. لقد حررت المقاومة غزة، وطردت منها قوات الاحتلال، ومن بعدها أفشلت الخطة الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية مع أطراف فلسطينية معادية للمقاومة للاستيلاء على القلعة من الداخل، وعززت بإفشالها تلك الخطة معالم قوتها وسيطرتها، والآن هي تتحول إلى الهجوم المضاد للخطة الجديدة للاختراقات والتوغلات، بل وتهاجم خارج القلعة المحاصرة. ولذلك جرى الحديث الإسرائيلي عن التهدئة، وكذا صدرت تصريحات إسرائيلية عن العودة لإمداد غزة بالوقود، كما صدرت تصريحات تطالب القيادة الإسرائيلية بالاعتراف بالحكم القائم في غزة، وكلها أمور تشير إلى فشل الخطة الإسرائيلية، وإلى تحول إسرائيل نحو خطة أخرى، دون ان يعنى ذلك تخليها عن اعنف درجات القتل، اذ العنف جزء اساسي من مكون الخطط الاسرائيلية. ******************************** * نُشر المقال في صحيفة الشرق القطرية