المملكة العربية السعودية أرض الحرمين ومهبط الوحي ، إليها تهتف قلوب العالمين في الأرض ، وتركض تجاهها قلوب الصالحين كل حين ، وعليها تعقد آمال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها .. وحق لها ذلك بفضل الله تعالى أولاً ثم بفضل الكبار الذين تعاقبوا على مد هذه الرسالة حتى أصبحت شموع أفراح في قلوب المسلمين في كل مكان . وهذه سنة الله تعالى في الكون ، قال تعالى " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا" إن ما نراه اليوم من نعم يعيشها الوطن والمواطن كالأمن والاستقرار ورغد العيش ، هو بعض آثار تمكين دين الله تعالى في الأرض ، وتحكيم شرعه في الحياة ، قال تعالى " وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غداقاً " ومثل ذلك أو أدل منه ريادتنا للأمم على ظهر الأرض ، فلا يعلم اليوم وطناً ظاهراً في الأرض بدينه كما هو هذا الوطن بحمد الله تعالى . وسنة الله تعالى ماضية في أن كل شيء مرهون بسببه ، وما نحن فيه من عز وأمن وظهور أمر هو بفضل تحكيم شرع الله تعالى في الأرض ، وجعله منهجاً في حياة الناس ، ولن يكون من جزاء للبعد عن هذه السنن إلا الشتات والفوضى وضياع الأمن ، وذهاب الهوية في الدنيا ، وهي أقل ما يناله المتنكّب عن النعمة . وهذه الحقائق الماثلة اليوم على أرض الوطن تسر كل مؤمن ، وتفرح كل مواطن ، وتبهج قلب كل من يجد لهذا الوطن مساحة من الحب في قلبه ، وفي المقابل تظل هذه النعم شوكة في حلق كل منافق في مجتمعه ، دعي في وطنه ، مشبوه في ولائه ووطنيته . غير أن هذه النعم التي يشهدها الوطن بات يتسابق على حرق معالمها ، واجتثاث آثارها نخبة تلبس لباس الوطن في الظاهر وتنخر في جسده من الداخل ، عازمة على اجتثاث روحه ، وأكل بنيته حتى يصبح أشبه شيء بمنسأة سليمان عليه السلام في رحلة ملكة . تتسابق هذه النخبة على المرأة ليس لأنها سهم في البناء ، ولبنة في الإصلاح .. كلا ! وإنما لأنها جسد يحلو الركض عليه ، ويزدان السمر على عريه وتفسخه بدليل أن حبر أقلامهم ذهب كله في الحديث عن المرأة ، ومرتكزه كله في اللهفة على رؤية وجهها عارياً من الحجاب ، وجسدها كلأً مباحاً للشهوة فحسب . يغيض هؤلاء ويسوؤهم كل من يتحدث عن ستر المرأة وحجابها وروحها وأناقتها ، وإذا وجد من يحرص على ستر هذه المرأة ، ويوسّع الهوة بينهم وبينها تآلبوا عليه ، وركضوا جاهدين في عدائه ، وشهروا به ، وتعاقبوا على الوشاية به . وأجزم لو وجد من يُحِل لهؤلاء اللقاء بالمرأة ، ويُحرّم بعد ذلك ما يشاء لرفعوه ، واعتبروه قدوة في العلم ، ورأساً في الوعي . لقد باتت الوطنية اليوم فن يديره الكاذب ، والمنافق ، كل يتشدّق بحب الوطن كذباً ، وزوراً ، ثم يعبث بعد ذلك في وطنه أسوأ من طفل يعبث بيده في شرار النار. إن من يعتدي على الوطن بمسحاته ومعوله وربما ببندقته ومسدسه دعي في وطنه ، حتى لو ولد على ترابه ، وتفيأ ظلاله كل حياته ، و من يعتدي على وطنه بكلمته وقلمه وفكره وشهوته وهواه مثله أو أسوأ منه . لو تصوّر إنسان أن عشرين مواطناً وقفوا في جزء من الوطن يشهرون السلاح في وجه من يلقوه ، يقاتلون الناس ، ويثيرون الشغب في بيوتهم ، ويشعلون النار في أرض وطنهم ما ذا يمكن أن يقال عن هؤلاء ؟ أليسوا هؤلاء صنّاع فرقة ، وهُدام بناء ؟! إذا كان كذلك فماذا نسمي تلك النخبة التي تتآمر فتشعل نفس الفتيل ، وترمي بذات الرصاص ، وتثير شغباً في العقول ، وتشعل النار ليس في جزء من أرض الوطن ، وإنما تشعل فتيل الفتنة وتهدر شرار النار في كل جزء من الوطن ؟! إن الإنسان لا يكاد ينقضي عجبه حين يرى تآمر ثلة على الوطن باسم الوطن تهتك ستره ، وتحرق مشاريعه ، وتعبث في جهوده ، وتئد كل خطوة للإصلاح فيه ثم ينظر لها على أنها فئة إصلاح ، وروّاد فضيلة . بالأمس القريب تبنّى خادم الحرمين الشريفين مشروعاً ضخماً في الوطن باسم (الحوار ) وصُرف عليه فكراً ووقتاً وجهداً ومالاً ما لا يمكن حصره ثم تأتي ثلة محسوبة على الوطن تكفّن ذلك المشروع في لحظة واحدة ، من خلال تشكيكها في النيات ، وحملها الكلام على غير محمله ، وتتنادى على لمز الكبار ، واتهامهم ، والتحريض عليهم كنتيجة غير طبيعة لمشروع وطن ، وهي بالأمس تدعو كل طرف في الحوار لأناقة الكلمة ، وروعة الهدف ، ورحلة البناء ليس مع المسلمين بل حتى مع سائر الطوائف والملل والنحل ثم تأتي لنا بالتطبيق العملي الكبير المتمثل في هذه الفوضى الفكرية التي تنادت عليها صحافة تكتب باسم الوطن زعماً في كل حرف . لقد حمل لنا هؤلاء المثقفون رسالة مفادها أنه لا سبيل لتمزيق هذه الوحدة التي يعيشها الوطن إلا بهذا التناحر السافر الذي يتمثل في الصراع بين أفكار أبنائه ، وبدل أن نتعاضد على الفضيلة ونتغافر في الخطأ نتخاصم في الشارع ، ويلطم بعضنا بعضاً على مرأى من العالم . إن خطر الإرهاب ليس في كون صاحبه يحمل رشاشاً يقتل به مئات الأبرياء ثم يقف عند ذلك ، كلا ، وإنما في كونه فكراً يمتد في عقول الشباب كل يوم بآثاره وأخطاره , ويظل ينخر في جسد الأمة مع تقادم الأيام . وهو ذات الخطر الذي يحمله روّاد الصحافة على عقول أبناء الأمة وشبابها وإلا فما الفرق بين صاحب فكر يحمل رشاشاً وبين صاحب فكر يحمل قلماً مسموماً .. لا فرق وإن كان الثاني هو الأرض الخصبة لنماء الأول بقوة . مسكين هذا الوطن كلما حاول أن يقف على قدمه صحيحاً معافاً أرداه من يلبس أعطافه وهو منه براء في المرض من جديد ! مسكين كلما حاول جاهداً في شفاء أبنائه من عللهم وأمراضهم وجد من يتشدّق باسمه ثم يعيد المرض في جسده من جديد . إن علينا أن ندرك أن الإسلام هو المنهج الذي ارتضاه الله تعالى لعباده على الأرض ، وهو المنهج الذي ستتم المحاكمة عليه يوم القيامة ، قال تعالى : " إن الدين عند الله الإسلام " ولن يكون الإنسان مؤمناً حق الإيمان حتى يستسلم لكل أحكامه مهما كانت ، قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة " . إن كل من حاول أن يعيق هذا الدين أو يقف في طريقه إنما هو في مقام من يعترض على منهجه ، ويرضى لنفسه طريقاً ومنهجاً غير الطريق الذي ارتضاه الله تعالى له ، وليس هذا فحسب ، وإنما يشرّع لغيره منهجاً غير منهج الله تعالى ، ويدلهم على الظلمات بعد أن عاشوا في النور أيام حياتهم . وقد قال الله تعالى محذراً هؤلاء " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها " وليعلم أن سنة الله تعالى ماضية في المدافعة بين الحق والباطل لا تتوقف في زمن ، ولا تنتهي في حقبة منه ، قال تعالى " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " وسيظل الصراع الذي نشهد لحظاته هذه الأيام بين الحق والباطل مستمراً ، وسيكون دولاً بين أصحاب كل فريق على قدر ما معهم من الأسباب التي تمكن كل فريق . ومعايير النصر والنصر والهزيمة ليست هي المعالم الظاهرة التي يراها الناس اليوم ، وتعارف عليها القوم ، وإنما هي ما سيكون عليه الأمر في النهاية ، وما ستؤول إليه النتائج في أرض الواقع ، وقد قال الله تعالى " ولينصرنّ الله من ينصره " وإن مواقف القيامة أكبر من كل الصور التي نتحدث عنها اليوم على ظهر الأرض ، إنها المواقف التي يجد فيها الصابرون أعظم صور النصر على عرصات القيامة ، ويجد فيها المنافق أكبر صور الهزيمة في تاريخ حياته ، وخاتمة المطففين لم تكن في فترة من تاريخ مكة الماضي ، وإنما هي صورة متكررة في كل زمن ينسى الإنسان أنه إنسان ، قال تعالى " إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون . وإذا مروا بهم يتغامزون . وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين . وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون . وما أرسلوا عليهم حافظين . فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون . على الأرائك ينظرون . هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون " إن الصورة التي حملت أبا جهل على أن يقول يوم أحد مستعلياً بباطله " أعل هبل " شاعت في تلك اللحظة وبلغ الفرح بها أوسع ما يبلغ في قلب إنسان تلك اللحظات ثم داول الله تعالى بين الأيام إلا أن لقي حتفه ذليلاً بباطله .. إن هذا اليوم قد يطول لكنه قادم حقيقة في قلب كل مؤمن .. والله المستعان ، وعليه التكلان . وإن غداً لناظره قريب ..! مشعل عبد العزيز الفلاحي