منذ عهد الملك المؤسس رحمه الله، ومروراً بأبنائه الملوك الستة الذين تولوا قيادة البلاد خلال السنوات الماضية, لا أمر يعلو على اهتمامات الحج ومتابعة الحجيج, هذا الموسم العظيم الذي يمثل لهم حالة استثنائية تستنفر خلالها الدولة كل الطاقات لخدمة ضيوف الرحمن منذ أن تطأ أقدامهم بلاد الحرمين وحتى عودتهم لبلدانهم، بعد إتمام الفريضة. تفرغ تام ويعرف المقربون من أصحاب القرار حرص القيادات السعودية على التفرغ تماماً لإدارة فعاليات الحج, وتأجيل كل الملفات الأخرى مهما بلغ شأنها؛ حتى التأكد من سلامة موسم الحجيج الذي يجتمع خلاله أكثر من 2 مليون نسمة في منطقة جغرافية صغيرة وأجواء خانقة معظم السنوات. واعتاد قادة بلاد الحرمين على قضاء 6 أشهر من العام بالقرب من الحرمين الشريفين, في جدة تحديداً؛ حيث يُشرفون على كل ما يتعلق بالقادمين للحج والعمرة, وعندما يحين الحج تنتقل الحكومة السعودية كاملة إلى مشعر منى لمتابعة كل التفاصيل مهما بلغت دقتها.
مشاريع مليارية هذا الاهتمام الذهني الكبير من قِبَل القيادات السعودية، جاء مقترناً مع حجم المشاريع الضخمة التي شهدتها المشاعر المقدسة خلال العشرة أعوام الأخيرة, والتي ضخّت خلالها الدولة مئات المليارات لتطوير المكان، ودرّبت مئات الآلاف من البشر لإدارة الحشود المليونية من ضيوف الرحمن، ومحاولة تنظيم سيرهم خلال تنقلهم من الحرم المكي مروراً بباقي المشاعر المقدسة.
ففي داخل المشاعر وفي إحصائية أولية، دفعت الحكومة السعودية 30 ملياراً للمشاريع البلدية فقط, وشملت قطار المشاعر، وجسر الجمرات، والخيام المقاومة للحريق، وتصريف السيول؛ في حين تم صرف مئات المليارات من الميزانيات لتجهيز الخدمات الصحية والبيئية والخدمات المرتبطة بالطرق خلال السنوات العشر الماضية.
تطوير مستقبليّ وبرغم ما أُنجز في المشاعر المقدسة خلال السنوات الماضية من مشاريع عملاقة أعادت صياغة المكان، وطوعت كل ما يحيط به من ظروف زمانية وجغرافية وفقهية لاستيعاب المزيد من حجاج وزائري بيت الله الحرام؛ إلا أن حركة التطوير والإعمار في المناطق المقدسة مستمرة، وبوتيرة متزايدة، وذات أولوية قصوى على مستوى مشاريع الدولة بشكل عام.
ومن هذا المنطلق أنهت هيئة تطوير مكة والمشاعر المقدسة أحد أهم وأكبر المشاريع في تاريخ المشاعر المقدسة؛ إذ يهدف إلى زيادة الطاقة الاستيعابية للمشاعر المقدسة على مراحل لتصل طاقتها الاستيعابية ل(7) ملايين حاج، بتكلفة 200 مليار ريال، وهو ما يؤكد أن القيادة السعودية لا تزال تمنح مشاريع الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة الأولوية، وأعطت لتطويرها بسخاء؛ للتسهيل على ضيوف الرحمن وقاصدي البيت العتيق، وتمكينهم من أداء عباداتهم بيُسر وسكينة، وتعتمد الدراسة على 3 محاور رئيسة: (الإسكان، والحركة، والخدمات)؛ لرفع مستوى الخدمات المقدمة لحجاج بيت الله الحرام، وزيادة الطاقة الاستيعابية للمشاعر المقدسة على مراحل؛ وصولاً إلى 7 ملايين حاج في سنة الهدف (1465ه)؛ وذلك باستغلال ما يمكن من سفوح الجبال؛ وفق المعايير المحددة من هيئة كبار العلماء.
مطالبات مسمومة ومع توالي مواسم الحج وتوافد مئات الملايين من الحجيج من 90 دولة وأكثر, يستمر العمل الجبار لخدمة ضيوف الرحمن التي لا يعكر صفوها إلا الحوادث التي تُزهق أرواح الحجيج, وتتسبب في ألم شديد لمختلف القائمين على إدارة الحج من رأس الهرم وحتى أصغر عامل لخدمة الضيوف, مع إيمانهم أن ما يحدث قضاء وقدر؛ إلا أنهم على يقين تام أن الخطط التشغيلية التي تضعها الدولة سنوياً لو طُبّقت لما حدث ما حدث.
هذه الحوادث، والتي كان آخرها "حادثة التدافع" التي حدثت أمس, أظهرت حقداً دفيناً من بعض الدول المجاورة، وتأتي إيران على رأس القائمة؛ حيث لم يمضِ إلا فترة قصيرة على إعلان الحدث؛ حتى استلّت خنجر الانتقاد المسموم في وجه المملكة, وبدأت في استفزاز بلاد الحرمين بمطالبات واهية, ومحاولات للتقليل من كل الجهود المبذول؛ حتى قبل أن تعزّي أسر الضحايا الذين توفوا في الحادثة, والتي تواترت الأنباء بأنهم اصطدموا بموجات بشرية إيرانية خالفت الطريق، ورفضت الانصياع للأوامر، وتسببت في إشعال فتيل تدافع شارع 204، الذي ذهب ضحيته قرابة 717 حاجاً.