تواجه المعلّمات المغتربات في قرى وهجر بعيدة عن مقرّ إقامتهن معاناة يومية خلال سيرهن على الطرق المحفوفة بالمخاطر في جميع الأوقات، والناجمة عن حوادث؛ بسبب تهوّر سائقيهن أو سائقي الشاحنات الأخرى على الطرق؛ حيث سبق أن تسبَّب ذلك في وفاة بعضهن أو تعرّضهن لمضايقات بعض الجُهَّال، خصوصاً عندما يجدون أن سائقهن غير سعودي، إضافة إلى تقلّب العوامل الجوية التي تجعلهن يلجأن للوقوف أحياناً لساعات طويلة على جانب الطرق؛ حتى تزول تلك الأجواء، كما أن بعضهن أصبحن يسافرن بدون محرم بعد وفاة آبائهن الذين كانوا يرافقونهن كمحرم عند تعيينهن بمنطقة تبعد 1300كم عن مقرّ إقامة أزواجهن. وتلقَّت "سبق" اتصالات من هؤلاء المعلّمات طالبن خلالها بإيصال مسلسل معاناتهن اليومية للمسؤولين في الدولة، معربات عن أملهن في الله ثم في المسؤولين بالنظر بعين الرحمة والشفقة في معاناتهن.
ومن هؤلاء المعلّمات "أم أسيد" التي قالت: "أنا معلّمة لغة إنجليزية أسكن بمكة المكرمة، وعيّنت في قرية تبعد عنها 270 كيلو متراً؛ ولذا أخرج من منزلي قبل شروق الشمس إلى تلك القرية قبل أن يصحو أطفالي من نومهم في الثالثة فجراً، وأنتظر الحافلة إلى الساعة الثالثة والنصف، وأذهب بالباص برفقة زميلاتي لتبدأ رحلة المعاناة منذ ركوبي الحافلة". وأضافت: "نمكث في الباص عيناً مفتحة وعيناً مغمضة طوال المشوار الذي يمتد أحياناً لأربع ساعات؛ خشية أن يصيب النعاس السائق، ويحصل ما لا تُحمد عقباه، خصوصاً أننا نشقّ طريقاً ملغماً بالحفريات والتحويلات، إضافة إلى الشاحنات التي تتسابق على دخول المدن قبل الساعة السادسة، حيث إنها تُمنع من الدخول بعد ذلك الوقت حتى نصل إلى مقر دوامنا". وأردفت أم أسيد: "لا نصل إلى المدرسة إلا وقد نال منا التعب والسهر ما نال، ولا نعود إلى منازلنا إلا وأطفالنا ينتظرون منا الاهتمام والحنان، فمنهم من هو في سن الرضاع، وينتظر حضن أمه ليشعر بأمومتها بعدما سئم اهتمام الشغالة، أو إتعاب الجدة بشقاوته، ومنهم مَن يدرس في المرحلة الابتدائية، ويحتاج لمن يهتم به وبمراجعة دروسه، أما أشقّ ما على أنفسنا نحن فئة "المسافرات يومياً" فهو دوام "الأسبوع الميت" الذي تريد منا مشرفات وموجهات المنطقة أن نحييه، ونرد له الروح بدوامنا اليومي؛ لأجل التوقيع فقط".
أما المعلّمة أم سعود التي تخرّجت بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، فقالت: "عُيّنت في منطقة عسير بقرية نائية تبعد عن بعسير 200 كم والسكن بها غير مناسب لي؛ فسكنت بالمدينة رغم بعدها وطرقها الجبلية الوعرة، مما عرضنا لثلاث حوادث، لكن عناية الله أنقذتنا، ونتنقل أنا وزميلاتي في ذهابنا وإيابنا للمدرسة بواسطة سيارتين؛ الأولى تقلنا لمنتصف الطريق، ونكمل باقيه في أخرى". وأضافت: "زوجي يعمل بالمنطقة الشرقية؛ فاضطررت لاصطحاب والدي كمحرم بعدما لم أوفّق بالتعيين بالقرب من مقرّ إقامة زوجي، وفي الأيام الأخيرة توفِّي والدي، مما جعلني في أمسّ الحاجة للنقل لعدم وجود محرم، ولقد ذهب زوجي للوزارة، وأبلغهم بمعاناتي وعدم جود محرم لي بالمنطقة، لكن محاولاته لم تفلح، وأنا الآن بدون محرم".
أما المعلِّمة مريم بانافع، معلمة الاقتصاد المنزلي فتقول: "تم تعيني منذ عام 1422ه بقرية تبعد مقرّ سكني بمكة 450 كم، وبقيت بها سنتان تجرّعت خلالها آلام الغربة ومشاكلها، ثم نُقلت إلى قرية الشواق التابعة لمحافظة الليث، والتي لم تختصر من المسافة السابقة سوى 150كم، وعملت بها سبع سنوات عجاف، وبعد ذلك نُقلت إلى قرية بمحافظة الكامل، إلا أن شيئاً لم يتغير من معاناتي؛ فالمسافة نفسها فقط أني غيّرت من الجنوب للشمال، بل مؤخّراً نقلت لمنطقة الجمعة والظبية، وهي منطقة أبعدتني أكثر من سابقاتها عن زوجي الذي يعمل بمكة". وقالت: "أصبحت محطمة الآن نفسياً ومعنوياً وفي حيرة من أمري بعدما لم أتمكّن من لمّ شملي بزوجي طوال 11عاماً قضيتها بعيدة عنه، ولم تشفع لي للاقتراب منه، وأنا غير مستوعبة لما يحدث لي، حيث إنني لا زلت أعامل كالمستجدات".
وتسكن أم فواز بمدينة الرياض، وتقطع مسافة إلى مدرستها تصل ل 500 كم ذهاباً وإياباً، وتقول: "أذهب يومياً إلى مدرستي، وأترك أبنائي من قبل صلاة الفجر، ولا أعود لهم إلا قبل صلاه العصر بقليل، هذا في الدوام الصيفي، أما الدوام الشتوي، فلا أرجع إلا قرب المغرب، وإذا رجعت أجد أطفالي ينظرون إليّ بفارغ الصبر، وأعود وأنا متعبة لا أستطيع الجلوس معهم، ولا أستطيع عمل أي شيء لهم؛ لأني منهكة؛ بسبب معاناة الطريق، إضافة لدوامي في المدرسة، ناهيك عن المخاطر التي تحف بطريقنا بدءً بسائق سيارتنا التشادي الذي لم يتعلم القيادة إلا منذ فتره قصيرة". وتقول المعلمة أم فواز عن سائقها: "سبق أن تسبّب في وفاة إحدى زميلاتي -رحمها الله- عندما كانت برفقتنا؛ بسبب تهوره وسوء تصرفه، وليس ذلك بالحادث الوحيد، بل تعرّضنا لأكثر من حادث، ومن آخرها ارتطامنا بشاحنة، لكن بفضل الله لم نصب بأي أذى". وتواصل: "معاناتنا لا تنتهي عند هذا الحدّ، فالمخاطر ترافقنا دائماً، خصوصاً في أوقات تقلّب الأجواء، فعندما تهطل الأمطار أو يهب الغبار الكثيف نضطر أحياناً للوقوف لساعات طويلة حتى تزول، ومرات نلجأ للغياب. كما أن رواتبنا يذهب أغلبها في إيجار المواصلات".
ولا تختلف معاناة المعلمة "ر. ف." كثيراً عن سابقاتها، بل ربما كانت أكثرهن معاناة، حيث تعمل كمعلمة مغتربة منذ 13 عاماً بإحدى محافظات الرياض، ووصفت نفسها بالمحرومة من التنعم بالحياة السعيدة مع أطفالها طيلة تلك الفترة التي تجرّعت خلالها أنواع المشقة والقلق النفسي ما بين استيقاظ في منتصف الليل وإرهاق الطريق، وهمّ أبنائها الذين تركتهم خلفها، والتفكير فيما يخبئ لها القدر: هل ستعود لتكتحل عيناها برؤيتهم وحضنهم مرة أخرى أم أن قدرها قد يحتم عليها غير ذلك؛ بسبب كثرة العوارض التي تعترض سيرها بشكل يومي. وأضافت المعلمة (ر. ف): "أفكر في الاستقالة المبكرة بعدما أصبح نقلي مستحيلاً، وبسبب إصابة أحد أبنائي بمرض قلبي، ويحتاج مني البقاء بالقرب منه؛ لأنه بحاجة ماسة لرعاية خاصة، ما يجعلني ألجأ بعض الأيام للغياب الذي قد يُحسب عليّ ويؤثِّر على مسارّ نقلي، حتى لو كان ذلك الغياب بعذر.
وبدورها شرحت المعلمة نوف محمد معاناتها مع الاغتراب الذي لا زالت تتجرع معاناته منذ عشر سنوات وهي تكابده وتجاهد نفسها حتى لا تتغيّب عن دوامها، ولو ليوم واحد، وإن كان ذلك بإجازة؛ حتى لا يؤخّر الغياب أو الإجازة على ترتيبها في طلب النقل، وقالت: "بعد كل هذا الجهد صُدمت بعدم نقلي في الحركة الأخيرة، وفوجئت بتثبت حديثات "البديلات"، وبعضهن بخبرة سنة واحدة فقط، وتُركت أنا ومثيلاتي مظلومات ومنسيات".
أما فوزية ناصر، فهي معلّمة مغتربة منذ 8 سنوات، ووضعها مشابه لزميلاتها في باقي قرى وهجر محافظة جدة، حيث كانت أيضاً تتوقّع أن تشملها وزميلاتها حركة النقل الأخيرة، لكن على ما يبدو فإن البديلات قد أخذن أماكنهن بحسب قولها، وقالت: "نطالب المسؤولين في الوزارة بأن يخافوا الله فينا، وعدم إحلال البديلات في الأماكن التي كنا نعلّق عليها أملنا بعد الله". وأضافت أن المسؤولين بالوزارة يعتذرون بعدم وجود شاغر لكن سرعان ما أوجدوا الشواغر للبديلات، وطالبتهم بتقدير جهودهن؛ كونهن مربيات لبنات المجتمع سئمن من تجشّم الصعاب والاغتراب، وهضم حقوقهن بلمّ شملهن بأسرهم".
وناشدت المعلّمات المغتربات والدهن وزير التربية والتعليم من خلال "سبق" بالنظر في معاناتهن ولمّ شملهن بأزواجهن وأبنائهن، وإيجاد حلول لمعاناتهن حيث إن بعضهن أمضين أكثر من 10 سنوات، وهن يتمنون لمّ شملهن بأسرهن، وتساءلن: "أليس من حقّنا القرب بعدما أمضينا كل تلك السنوات الطويلة مبتعدات عن تربية أبنائنا، وإحلال البديلات في أماكننا ليضحين مثلما ضحينا بأرواحنا والبعد عن أطفالنا؟".