أكد إمام وخطيب جامع الأمير سلطان بن فهد بالرياض الدكتور ناصر بن محمد الهويمل في خطبته لهذا اليوم أن الأمن مطلب عزيز وكنز ثمين، هو قوام الحياة الإنسانية كلها، وأساس الحضارة المدنية أجمعها، تتطلع إليه المجتمعات، وتتسابق لتحقيقه السلطات، وتتنافس في تأمينه الحكومات، تسخر له الإمكانات المادية والوسائل العلمية والدراسات الاجتماعية والنفسية، وتحشد له الأجهزة الأمنية والعسكرية، وتستنفر له الطاقات البشرية. وأضاف الدكتور الهويمل بأن الأمن مطلب يسبق طلب الغذاء؛ فبغير الأمن لا يستساغ طعام، ولا يهنأ عيش، ولا يلذ نوم، ولا ينعم براحة.. قيل لحكيم: أين تجد السرور؟ قال: في الأمن، فإني وجدت الخائف لا عيش له. ففي ظل الأمن تحفظ النفوس، وتصان الأعراض والأموال، وتأمن السبل، وتقام الحدود، ويسود العمران، وتنمو الثروات، وتتوافر الخيرات، ويكثر الحرث والنسل.. في ظل الأمن تقوم الدعوة إلى الله، وتعمر المساجد، وتقام الجمع والجماعات، ويسود الشرع، ويفشو المعروف، ويقل المنكر، ويحصل الاستقرار النفسي والاطمئنان الاجتماعي.
وتابع الهويمل يقول: "إذا اضطرب الأمن عياذاً بالله ظهرت الفتن، وتزلزلت الأمة، وتخلخلت أركانها، وكثر الخبث، والتبس الحق بالباطل، واستعصى الإصلاح. إذا اختل الأمن عياذاً بالله سادت شريعة الغاب، وعمت الفوضى، وهلك الناس. وتأملوا بلداناً من حولكم اختل فيها الأمن؛ فهلك فيها الحرث والنسل، وسُلبت الأموال، وانتُهكت الأعراض، وفسد المعاش، فلا حول ولا قوة إلا بالله. ومن أجل هذا فإن كل عمل تخريبي يستهدف الآمنين ومعصومي الدماء والنفوس هو عمل إجرامي محرم، مخالف لأحكام شرع الله، فكيف إذا كان القتل والتخريب والإفساد والتدمير في بلد مسلم، بلد يعلي كلمة الله، وترتفع فيه راية الدين والدعوة وعلم الشرع وحكم الشرع؟!! ثم كيف إذا بلغ الضلال بأصحابه، فطلبوا الأمان ورموا السلاح، فلما أعطوا الأمان ختموا حياتهم بخيانة زهق أنفسهم وقتل رجال الأمن الذين أعطوهم الأمان؟! إن ذلك كله يزيد الحرمة حرمة، وحسبنا الله ونعم الوكيل".
وأردف إمام وخطيب جامع الأمير سلطان بن فهد بالرياض: لقد استيقظت السعودية صبيحة يوم الاثنين المنصرم على خبر الاعتداء الآثم على دورية حرس الحدود بمركز سويف بالحدود الشمالية لهذا البلد الطاهر. نحن نغط في نوم عميق وهناك أعين باتت تحرس في سبيل الله وحماية حدود بلادنا من تعدي المعتدين. وقد نتج من هذا الاعتداء الآثم استشهاد رجلي أمن وإصابة ثالث.. نسأل الله أن يتقبل مَن استُشهد، وأن يمن بالصحة والعافية على رجل الأمن المصاب.
واستطرد: لا تعجبوا من صنيع هؤلاء الخوارج؛ فهم قتلة عثمان بن عفان بالأمس، وهم قتلة المسلمين اليوم ، فكم من نفس مسلمة بريئة بسببهم أزهقت، وكم من أموال وممتلكات محترمة أتلفت، وكم من نفوس آمنة روعت. مفاسد عظيمة، وشرور كثيرة، وإفساد في الأرض، وترويع للمؤمنين والآمنين، ونقض للعهود، وتجاوز على إمام المسلمين. جرائم نكراء، في طيها منكرات. أين يذهب هؤلاء من قول الله عز وجل {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} [النساء:93]؟! وأين يذهبون من قوله صلى الله عليه وسلم "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم" أخرجه النسائي والترمذي[1]، ومن قوله عليه الصلاة والسلام "لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً"؟ وقال: أعمال سيئة شريرة، تثير الفتن، وتولد التحزب الذي يدمر الطاقات، ويشتت الجهود، ويهدر المكتسبات، ويؤخر مسيرة الإصلاح، ويخذل الدعوة والدعاة، ويفتح أبواب الشر أمام ألوان من الصراعات، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وأشار إلى أن الموقف الصريح الذي لا لبس فيه، ولا يختلف عليه، هو إنكار هذا العمل واستنكاره ورفضه وتجريمه وتحريمه، وليحذر من أراد الخير لنفسه من عمى البصيرة وتزيين الشيطان، فيرى الحق باطلاً، والباطل حقاً عياذاً بالله.
وأضاف: إن من المعلوم أن الخوارج كانوا أهل عبادة، وفيهم مظاهر الصلاح وإظهار بعض الشعائر كما جاء من أوصافهم في الحديث "تحقرون صلاتكم عند صلاتهم، يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم". هؤلاء الخوارج ظهروا في خير القرون وأفضلها، في عهد صحابة نبينا محمد فوصل بهم الحال إلى أن حاربوا الصحابة والمسلمين، بل قتلوا الخليفتين الراشدين عثمان وعلياً رضي الله عنهما.
ومضى الهويمل يقول: ألا يكفي زيفاً وضلالاً أن يجهل الخوارج صحابة رسول الله، ويكفروهم ويحاربوهم؟! لقد كان عند الخوارج شيء من حماس ونوع من إخلاص، ولكن لم يكن عندهم علم صحيح ولا فقه عميق، حاربوا الصحابة، وقتلوا الخلفاء، زاعمين أن هذا هو طريق الإصلاح. حارب الخوارج من أجل القضاء على حكم بني أمية زاعمين أن هذا هو الطريق إلى الخلافة الراشدة، والذي حصل أن جاء حكم بني العباس على أنقاض بني أمية وجثث الخوارج على حد سواء، ومن تجاهل التاريخ تجاهله الواقع، فافقهوا سنن الله، واستقيموا على الحق، وخذوا العلم الصحيح من أهله.
وأضاف: سبحان الله، إن إخلاص الأم الجاهلة لا يفيدها في تربية ابنها على نحو سليم، وإن لوعة الأب وخوفه على ابنه لا يغنيه عن علاج الطبيب، وبعض محبي الإسلام اليوم لا ينقصهم إخلاص ولا حماس، ولكن ينقصهم العلم الصحيح والفقه الدقيق وحسن التدين، الإخلاص والحماس يولدان في زمن قريب، أما العلم والفقه فيحتاجان إلى وقت طويل وتعليم وتدريب وسلامة حواس وكفاءة معلم.
وتابع: أيها المسلمون، إن من أعظم أسباب انحراف هؤلاء الجهل والعزلة عن المجتمع، وعدم أخذ العلم من أهله، وغفلة الأسرة. وإن في بعضهم إعجاباً بالنفس كبيراً، وهذه كلها من الصوارف عن الحق والفقه وأخذ العلم من أهله وأبوابه. معاشر المسلمين.. وثمة سبب في الانحراف كبير، ذالكم هو الوقوع في دائرة الغلو. إن الغلو في دين الله هو والله سبب الهلاك؛ فلقد قال عليه الصلاة والسلام "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو".
وبيّن الهويمل خلال خطبته أن الغلو مشاقة حقيقية لهدي الإسلام، وإعراض عن منهجه في الوسط والاعتدال والرحمة واليسر والرفق.. الغلو ظلم للنفس وظلم للناس، بل فيه صد عن سبيل الله؛ لما يورثه من تشويه وفتنة وتنفير. الغلاة يتعصبون لجماعتهم، ويجعلونها مصدر الحق، ويغلون في قادتهم ورؤسائهم، ويتبرؤون من مجتمعات المسلمين، ويكفرون بالمعاصي، ويكفرون أهل الإسلام وحكام المسلمين، ويقولون بالخروج على أئمة المسلمين، ويعتزلون مجتمعات المسلمين، ويتبرؤون منهم، لا يصلون خلف أئمة المسلمين في مساجد المسلمين. لقد وصفهم نبينا محمد بوصفين ظاهرين خطيرين في قوله عليه الصلاة والسلام: "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان" أخرجه البخاري ومسلم. الوصف الأول: يقرؤون القرآن ولا يفقهونه، ولا يدركون مقاصده. يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين".
الوصف الثاني: استحلال دماء المسلمين "يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان". يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "إنهم يكفّرون بالذنب والسيئات، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأن دار الإسلام دار كفر، ودارهم دار الإسلام". ولقد قال أبو قلابة: "ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف". فلا حول ولا قوة إلا بالله. يجمعون بين الجهل بدين الله وظلم عباد الله، وبئس الطامتان الداهيتان. إن مصير الغلاة هو الهلاك بنص حديث رسول الله: "هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون". وختم خطبته سائلاً الله أن يديم الأمن والأمان على بلادنا، ويصرف عنا شر الأشرار وكيد الفجار والنهار، وأن يحفظ لهذه البلاد أمنها وجندها وولاة أمرها.