لم يكن يدور في خلد أحد أنه في نهاية عام 2010، ستندلع سلسلة ثورات في الوطن العربي مطيحة بنظامٍ إقليمي مستقرٍ ومستمرٍ منذ عقودٍ حفظ للمنطقة توازناتها السياسية ونظم علاقاتها البينية. ومع بداية ثورة تونس في ديسمبر 2010 حتى الآن اهتزت الدول العربية على وقع اضطرابات مزلزلة نجحت بعضها في تجاوزها بينما مازال بعضها يحاول التعافي منها، فيما تتمزق أخرى على وقع حروب أهلية وطائفية اندلعت فيها ولم تهدأ حتى الآن.
وراقبت دول الخليج بترقب وبدهشة كغيرها من دول العالم هذه الثورات، وحاولت التعامل مع مخرجات هذه الثورات بالشكل الأنسب.
وبالنظر لوضع دول الخليج وخصوصيتها الثقافية والسياسية والاقتصادية في الوطن العربي، كان لا بد أن يكون موقفها موحداً تماماً في التعامل مع هذه الأحداث؛ لكن الحقيقة أن الصف الخليجي اهتز بقوة بسبب المواقف من هذه الثورات ونتائجها.
بداية الخلاف المواقف وإن بدت موحدة بداية بخصوص ثورات تونس وليبيا واليمن وسوريا، فإن مصر شكلت نقطة خلافٍ كبرى بين دول مجلس التعاون؛ حيث رأت الدوحة أنه من الأفضل لها دعم تنظيم الإخوان المسلمين في حكم مصر، وهو ما كان يمكن قبوله لولا بدء النتظيم بتحريك خلاياه في دول الخليج ومحاولة نقل أفكاره والتدخل في شؤون هذه الدول.
تصاعد الأزمات لم يقتصر الخلاف بين دول الخليج على مصر وحدها، بل إنه امتد إلى ليبيا بعد أن كان موقف دول الخليج موحداً في ضرورة إنهاء حكم معمر القذافي، حيث شاركت أو وافقت على إسقاطه، إلا أن موقف قطر بعد ذلك أدى إلى إيجاد هوة كبيرة، حيث بدأت بدعم فصائل إسلامية مسلحة هناك تحولت إلى التطرف الكامل وبدأت تسعى للسيطرة على البلاد، وهو ما دفع الإمارات بالمقابل إلى دعم اللواء خليفة حفتر، الذي أطلق عملية "كرامة ليبيا" بغرض القضاء على بعض الجماعات التي توصف بأنها "إرهابية"، وفي وقت لاحق وبعد أشهر من انطلاق العملية أعلن الجيش الليبي النظامي تأييده لعملية الكرامة لمواجهة المليشيات المتطرفة في المدينة حيث أصبحت العملية بدءاً من سبتمبر 2014 إحدى عمليات الجيش الليبي النظامي.
الثورة السورية ولم يقتصر الموقف القطري في صُنع جماعات مقاتلة على ليبيا؛ بل امتد إلى سوريا؛ حيث أصبحت هناك كتلتان معارضتان أولاهما المجلس الوطني السوري (وهو إخواني في معظمه تدعمه قطر) والأخرى الائتلاف الوطني السوري، وهو مدعوم من كثير من دول العالم وعلى رأسها المملكة وتركيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وأدى هذا التداخل والتعارض إلى أزمات سياسية بين قوى المعارضة ومواجهات مسلحة بين الفصائل المقاتلة في سوريا، وهو ما أغضب بشكل حقيقي المملكة؛ بل كثيراً من دول العالم.
تجنيس البحرينيين لعل أغرب ما حدث من خلافات بين دول مجلس التعاون هو موضوع البحرينيين الذين قامت قطر بتجنيسهم، وهم مجموعة تتراوح تقديرات أعدادهم بين العشرات والمئات وكثير منهم من عائلات سنية عريقة في البحرين، مثل عائلة "السويدي"، وهي العائلة التي تتحدر منها والدتا كل من وزير الديوان الملكي خالد بن أحمد آل خليفة، وأحمد عطية الله آل خليفة، الذي يشغل منصب وزير شؤون المتابعة بالديوان الملكي.
كما يشغل أفراد هذه الأسرة مواقع حسّاسة في الجيش وجهاز الأمن الوطني، وفاقم من الأزمة تجنيس عائلات أخرى مثل أبناء قبيلة الجلاهمة.
سحب السفراء لقد أدّت هذه الأزمات المتصاعدة إلى قرار خليجي هو الأول من نوعه منذ تأسيس المجلس وهو سحب سفراء الملكة والإماراتوالبحرين من الدوحة، بسبب ما وُصف حينها ب "سلوك الدوحة المعادي وتدخل قطر المستمر في الشؤون الداخلية لدول المجلس.
عودة المياه إلى مجاريها في منتصف الشهر الماضي، عقدت في الرياض برئاسة خادم الحرمين الشريفين، قمة خليجية استثنائية خرجت بالتأكيد على فتح صفحة جديدة في العلاقات الخليجية، وإنهاء الخلاف مع قطر، مع التزام الدوحة بتنفيذ اتفاق الرياض الذي أقرّ عبر وزراء خارجية دول المجلس.
وبعد انتهاء القمة صدر بيان مشترك نص على "تمّ التوصل إلى اتفاق الرياض التكميلي الذي يصب - بحول الله - في وحدة دول المجلس ومصالحها ومستقبل شعوبها، ويعد إيذاناً بفتح صفحة جديدة ستكون بإذن الله مرتكزاً قوياً لدفع مسيرة العمل المشترك والانطلاق بها نحو كيان خليجي قوي ومتماسك، خاصة في ظل الظروف الدقيقة التي تمر بها المنطقة، وتتطلب مضاعفة الجهود والتكاتف لحماية الأمن والاستقرار فيها، وبناءً عليه فقد قررت كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين عودة سفرائها إلى دولة قطر.
نسأل الله أن يحمي دول المجلس من كيد الكائدين، وأن يديم عليها الأمن والاستقرار والرخاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه".
التطلع نحو المستقبل تبقى الإشارة في النهاية إلى أن دول الخليج وبعد طي صفحات الخلاف هذه وانطلاقاً من قمة الدوحة عليها مهام كبيرة لحفظ استقرارها وما تحقق من مكتسبات لأبنائها، والسعي للحفاظ على ازدهارها الاقتصادي واستقرارها السياسي، في وسط منطقة مشتعلة بالمعنى الحرفي للكلمة.
ولعل العاصمة القطرية، وإن كانت عنوان الخلاف سابقاً ستكون عنوان الانطلاقة الجديدة الآن؛ لمواجهة التحديات التي تحيط بدول الخليج، وربما كانت السنوات الأربع السابقة سنوات عاصفة في العلاقات الخليجية - الخليجية، لكنها ربما أيضاً ستكون تذكيراً دائماً لدول المجلس أن توحدها هو سبيلها الأفضل لمواجهة ما تشهده المنطقة من إرهاب وفوضى وحتى "بلطجة" من بعض الدول.