العمل في "مقعد جدة وأيامنا الحلوة" قد يجعلك تعيش رغماً عنك في جوار التاريخ وذكرياته، وقد يغيّر مجرى حياتك؛ فوجودك في هذا المكان يجعلك تكتشف الكثير عن تاريخ مدينة جدة وعن تاريخك الشخصي. أمام "برحة نصيف" الشهيرة في مواجهة حارة اليمن قد يظن المار للوهلة الأولى أنها بضع أنتيكات قديمة متوارية بجوار الطريق الرئيسية، ولا تتضح معالم المكان سوى بعد قراءة اللافتة "مقعد جدة وأيامنا الحلوة". ويحكى أنه في إحدى المرات جاء أحد المرتادين لمنطقة البلد إلى "مقعد جدة وأيامنا الحلوة" ظاناً أنه مصلى، وما إن علم بأنه منبر تاريخي للمكان والإنسان حتى بدأ في التجول داخل أروقته بعد قراءة الفاتحة على أرواح الذين مضوا.. والحديث هنا ل"طلال خوتاني" مدير المقعد، الذي احتفظ بابتسامته التقليدية التي يواجه بها الزوار على اختلاف أنواعهم.
تحت هذا السقف يجلس "خوتاني" في مكتبه محترماً هيبة هذا التاريخ، ويرى أن وجوده في هذا المكان نتيجة طبيعية لحبه القديم لتاريخ (البلد) منذ أن كان طفلاً يلعب في أزقتها، وهدفه أن يصبح هذا المكان مقراً ومنتدى للمثقفين والمؤرخين والباحثين المهتمين في تراث المنطقة التاريخية.
وبمجرد أن بدأ شرحه لمكونات المقعد حتى تحولت ملامحه إلى الجدية، مُظهِراً اعتزازه بأن هذا المقعد يجمع بين كونه متحفاً تقليدياً وموقعاً يتعرف من خلاله الزوار عن قرب على المقتنيات التراثية القديمة التي كانت تُستعمل من قبل الأهالي الذين سكنوا المنطقة التاريخية (البلد) عبر التاريخ.
وبالعودة إلى حيثيات المقعد، فقد تم تدشينه في إبريل الماضي على يد رئيس بلدية جدة التاريخية، المهندس عوض المالكي، ببرحة نصيف بالمنطقة التاريخية، بحضور مجموعة من عمد الأحياء، وكذلك نخبة من عشاق ومحبي التراث والمهتمين بالفن التشكيلي. ويحمل المقعد في جنباته مجموعة من الصور النادرة عن منطقة جدة، إلى جانب الكثير من المقتنيات والتحف. فيما ينتظر المقعد افتتاح مهرجان "جدة التاريخية"، الذي سيبدأ في السادس عشر من يناير المقبل، والذي سيتيح للجيل الجديد من الشباب والشابات والأهالي والزوار والأجانب التعرف على إرث سكان جدة التاريخية.
تبدأ الجولة من مدخل ينقل زائر "حي البلد" من عالم صاخب بأصوات الباعة والزبائن إلى عالم آخر ينبض بالتاريخ والتقاليد، وإرث كاد يُنسى لولا تداركه بمقعد جدة وأيامنا الحلوة. ومن هذا الموقع تحديداً تبدأ جولة "خوتاني" التي لم يمل تكرارها منذ أن تم افتتاح المقعد قبل ستة أشهر، وهدوء المكان انطبع على شخصيته المتفائلة، ووفر له فرصة التركيز الشديد أثناء سرده للمعلومات برصانة ووقار، وتزايد عدد الزوار الذين بلغوا 15 ألف شخص لا يقلقه، لكنه يشعل غيرته، ويدفعه إلى الحديث بحماس عن رحلات المدارس وأفواج المعتمرين والحجاج التي لا بد أن تمر من هنا أثناء زيارتها للسعودية.
ولا يخفي طلال أن الحياة بين جدران المقعد أمام اللوحات والمقتنيات قد غيرت بعض طباعه ونظرته إلى الأشياء؛ إذ يقول معلقاً: "أصبحت أكثر حساسية في التعامل مع أي لوحة معلقة على الجدران، حتى إن كانت لوحة عابرة في عيادة أسنان". ويتجول خوتاني مع الزوار بين أروقة المقعد مستعرضا كمًّا لا بأس به من المعلومات، فيما تتغير اللغة أحياناً مع الزوار الصغار حين يقص عليهم تاريخ الأجداد بشكل قصصي.