ردّ الأمين العام المساعد للهيئة العالمية للتعريف بالرسول صلى الله عليه وسلم ونصرته الشيخ خالد بن عبدالرحمن بن حمد الشايع، على من سَخِر من الهدي النبوي في معاملة الحكام وحرّف النصوص، وأكد على وجوب التسليم لنصوص القرآن والسنة، والحذر من تقديم الآراء والأهواء عليهما. جاء ذلك في بيان للشيخ خالد الشايع، هذا نصه: "الحمد لله وليِّ المؤمنين، وأشهد ألا إله إلا هو سبحانه الحقّ المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخِيرته من خلقه. صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فلا يرتاب أهل الإسلام قاطبة في وجوب تعظيم القرآن والسنة، والتسليم لنصوصهما الجليلة، والتأدب غاية الأدب في التعامل معهما. وقد أتى حينٌ من الدهر كانت فتاوى العلماء ومقالاتهم في الدفاع عن حياض القرآن والسنة نحو المبطلين من أهل الملل الأخرى، أو نحو الزنادقة وأهل الضلال. غير أنَّ من أعظم ما بليت به الأمة وجود بعض أهل القبلة الذين يرجعون بالسوء من القول والقبيح من الكتابة نحو نصوص القرآن والسنة، إما تكذيباً أو محادة أو استهزاءً أو تأويلاً باطلاً. وقد هبَّ الغيورون جزاهم الله خيراً لمدافعة ذلك، والرد على عدد من الكتَّاب والكاتبات الذي اجترؤوا بالسوء نحو السنة المطهرة. وهانحن اليوم أيضاً أمام إساءةٍ بغيضة نحو السنة المطهرة تصدر –وللأسف- عن باحث متخصص في علوم الشريعة وهو الأخ د.محمد العبد الكريم، حيث كتب في حسابه في تويتر: (حين يسرق الحاكم المال العام، فهو مجرم يجب أن ينال عقوبة نهبه في عرف القرآن، وهو حاكم مستأثر يجب الصبر على أثرته في عرف فقهاء البلاط). وكتب أيضاً: (أسوأ نظرية عرفها التاريخ الإسلامي: نظرية الصبر على الحاكم الجائر بدون وسائل سلمية تجبره على العدل). وهذا الكلام مشتمل على الباطل من جهتين: الأولى: محادَّة السنة النبوية وعدم الإذعان لها. والثانية: المجادلة في أمر عظيم تتوقف عليه المصالح العليا للأمة في أمنها واجتماعها وإقامة شعائرها. وتوضيحاً لما في الكلام المذكور من الباطل والتلبيس والرد عليه، وبياناً للحق الذي دلت عليه نصوص الوحيين أقول: أولاً: في العمل بالقرآن والسنة حفظ الحقوق: الواجب على الجميع تعظيم نصوص القرآن والسنة، فهما مصدر الحقوق للجميع، وباتباع ما فيهما يهتدي الناس ويسعدوا، قال الله تعالى عن هذا القرآن العظيم: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكلِّ شَيْءٍ وَهدًى وَرَحْمَةً وَبشْرَى لِلْمسْلِمِينَ [النحل:89]. وحذَّر الله من الإلحاد فيهما أو تقديم الرأي عليهما، فقال سبحانه: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنوا لا تقَدِّموا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسولِهِ وَاتَّقوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الحجرات:1]. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: هذه آداب أدَّب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام، فقال: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنوا لا تقَدِّموا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسولِهِ) أي: لا تسْرِعوا في الأشياء بين يديه، أي: قبله، بل كونوا تَبَعاً له في جميع الأمور. وقال الشيخ السَّعدي رحمه الله: هذا حقيقة الأدب الواجب مع الله ورسوله، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه، وبفواته تفوته السعادة الأبدية والنعيم السرمدي، وفي هذا النهي الشديد عن تقديم قول غير الرسول صلَّى الله عليه وسلم على قوله، فإنه متى استبانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب اتباعها وتقديمها على غيرها كائناً ما كان. ثانياً: في نصوص الوحيين إيجاب طاعة أولي الأمر وتفصيل ذلك: ما نسبه د. محمد إلى ما سماه "عرف القرآن" تلبيسٌ ينَزَّه عنه كتاب الله جلَّ وعلا، والقاعدة الشرعية حمل المطلق على المقيَّد، والمجمل على المفصَّل والمبيَّن في نصوص الوحي الكريم. فنصوص القرآن والسنة فيها تقرير المنهج الذي يجب على الناس اتباعه في التعامل مع الحكام وأولي الأمر، وجاء التفصيل في كل ما يحتاجه الناس. قال جل وعلا: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنوا أَطِيعوا اللَّهَ وَأَطِيعوا الرَّسولَ وَأولِي الْأَمْرِ مِنْكمْ فَإِنْ تَنَازَعْتمْ فِي شَيْءٍ فَردّوه إِلَى اللَّهِ وَالرَّسولِ إِنْ كنْتمْ تؤْمِنونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَن تَأْوِيلاً) [النساء:59]. وفي الصحيحين عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت رضي الله عنه وهو مريض، فقلنا حدِّثنا أصلحك الله بحديث ينفع الله به، سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخَذَ علينا: أنْ بايَعَنَا على السمع والطاعة في مَنْشَطِنَا ومَكْرَهِنَا، وعسْرِنَا ويسْرِنا، وأَثَرَةٍ علينا، وأن لا ننَازِعَ الأمرَ أهلَه. قال: " إلا أنْ تَرَوا كفراً بَوَاحَاً عندكم من الله فيه برْهَان". قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد استفاض وتقرر ما قد أمر به صلَّى الله عليه وسلَّم من طاعة الأمراء في غير معصية الله ؛ ومناصحتهم والصبر عليهم في حكمهم وقَسْمِهم؛ والغزو معهم والصلاة خلفهم، ونحو ذلك من متابعتهم في الحسنات التي لا يقوم بها إلا هم. ا.ه. ثالثاً: في الهدي النبوي بيان وافٍ في كيفية التعامل مع أثَرة الحكام: بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنصح الخلق للخلق، كيف يكون التعامل مع الأئمة عند استئثارهم وجورهم، وليس فيه ما زعمه الدكتور محمد، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة رضي الله عنه خمس سنين، فسمعته يحدِّث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبيٌّ خَلَفَه نبيٌّ، وإنه لا نبيَّ بعدي، وستكون خلفاء تَكْثر"، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: " فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقَّهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم". وفي الصحيحين أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها ستكون بعدي أثَرَةٌ وأمورٌ تنكرونها". قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منَّا ذلك؟ قال: "تؤدّون الحقَّ الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم". قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله: "أعطوهم حقَّهم" أي: أطيعوهم وعاشروهم بالسمع والطاعة، فإن الله يحاسبهم على ما يفعلونه بكم. وقوله: "أدّوا إليهم حقَّهم" أي: الذي وجب لهم المطالبة به وقَبضه، سواء كان يختص بهم أو يعم. وقوله: "تَسْألون الله الذي لكم" أي: بأن يلهمهم إنصافَكم، أو يبدلكم خيراً منهم. قال: وفي الحديث: تقديم أمر الدِّين على أمر الدنيا لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بتوفية حق السلطان لما فيه من إعلاء كلمة الدِّين وكفِّ الفتنة والشر. وتأخير أمر المطالبة بحقه لا يسقطه، وقد وعده الله أنه يخلصه ويوفيه إياه، ولو في الدار الآخرة. وقال الإمام النووي رحمه الله: وفيه: الحث على السمع والطاعة، وإن كان المتولِّي ظالماً عَسوفاً، فيعطى حقه من الطاعة، ولا يخرج عليه ولا يخلع ؛ بل يتضرع إلى الله تعالى في كشف أذاه، ودفع شره وإصلاحه. قال ابن كثير: قال قتادة: ذكر لنا أن أبا الدرداء قال: لا إسلام إلا بطاعة الله، ولا خير إلا في جماعة، والنصيحة لله ولرسوله، وللخليفة وللمؤمنين عامة. قال: وقد ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: عروة الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين. فهذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا حكمه وهديه، وذلك كلام الصحابة والتابعين والقرون المفضلة، وعلى هذا درج العلماء المتبعون للدليل، ولا يضيرهم أن يلمزهم د. محمد بأنهم "فقهاء البلاط". رابعاً: تفسير الأئمة لمعنى الأثَرَة: فسَّر بعض الناس الأَثَرة بتفسيرات لم تحفظ عن أئمة السلف وشراح الحديث، وبخاصة ما طرحه أحد الأكاديميين في الكويت متزامناً مع ما طرحه د. محمد العبد الكريم ومما ذكره الأئمة في معنى الأثرة: قول الإمام النووي والحافظ ابن حجر: الأثَرَة هي الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا عليكم، وَالْمرَاد أَنَّ طَوَاعِيَتهمْ لِمَنْ يَتَوَلَّى عَلَيْهِمْ لا تَتَوَقَّف عَلَى إِيصَالهمْ حقوقهمْ بَلْ عَلَيْهِمْ الطَّاعَة وَلَوْ مَنَعَهمْ حَقَّهمْ. وقال الحافظ البغوي في شرح السنة: قوله: "وأَثَرةٍ علينا أي: يستأثر علينا، فيفضل غيركم نفسَه عليكم. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: معنى قوله: "وأثَرَةٍ عليك" "وأثَرَةٍ علينا" أي: وإن استأثر ولاة الأمور عليك فلم ينصفوك ولم يعطوك حقك... فذلك ما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم: هو واجب على المسلم ؛ وإن استأثروا عليه، وما نهى الله عنه ورسوله من معصيتهم فهو محرم عليه ؛ وإن أكره عليه. خامساً: منازعة الحكام سبب التفرق والاضطراب: تمنيت من الأخ د. محمد العبدالكريم أن يصحح مساره في تعامله مع نصوص السنة في أبواب الإمامة والجماعة، لكني وجدته عقب على كلامه السابق بقوله: (ولكن الصبر على طبيعة الأثرة التي في السلطة لا يمنع من أطرها وجبرها على العدل بكل وسيلة سلمية بدلالة السنة فمن جاهدهم...فهو مؤمن) وبقوله: (ومن المعلوم أن هناك من يتعامل مع جرائم السلطة مكتفيا بحديث الأثرة معطلا لبقية السنة متناسيا أن حديث الأثرة والصبر دلالاتها في منع الخروج فقط). أقول: كان الواجب التعامل مع النصوص بمجموعها وفق فهم سلف الأمة من الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم، فالألفاظ المجملة والمطلقة لا بد من حملها على المفصل والمقيد. وقد وجِد بالاستقراء أن ما حلَّ بالمجتمعات الإسلامية من تأجيج الفتن وسفك الدماء والإخلال بالأمن وانتهاك الحرمات، عبر هذا الاتجاه الذي يبيح منازعة الولاة والحكام، والذي كانت بدايته بالكلام أو بالوسائل السلمية كما يسميها د. محمد. وقد أغلق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب إغلاقاً محكماً بما لا مجال معه للاجتهاد، فقال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ رأى من أميره شيئاً فكَرِهَه فليصبر ؛ فإنه ليس أحدٌ يفارق الجماعة شِبْراً فيموت إلا مات ميتةً جاهلية". قال الحافظ ابن حجر: قوله: "شبراً ": كناية عن معصية السلطان ومحاربته. وقال ابن أبي جمرة: المراد بالمفارقة السعي في حلِّ عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير، ولو بأدنى شيء، فكنَّى عنها بمقدار الشبر، لأن الأخذ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حق. وقال الشيخ عبدالرحمن البراك حفظه الله في شرح الطحاوية: أكثر الناس إنما ينكرون على الولاة أمر الدنيا لا أمر الدِّين، فلا ينقمون تقصيرهم في حقوق الله، إنما نقمتهم الأثَرة، ويطلبون منافستهم في الدنيا، ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الأنصار فقال: "إنكم ستلقون بعدي أثَرة؛ فاصبروا حتى تلقوني على الحوض"، فقوله "أثَرَة": استبداد بالولايات وبالمال. وقوله صلى الله عليه وسلم: "فاصبروا" أي: لا تنازعوا ولاة الأمر من أجل ذلك. وكثيراً ما يكون الخروج على الولاة من أجل المنازعة على السلطة باسم الإصلاح الدنيوي أيضاً؛ فينتج عنه شر مستطير على الناس، فتسفك الدماء وتنتهك الحرمات، وتذهب الأموال، وينتشر الفساد، خصوصاً إذا لم يكن هناك استقرار في الأمر فتعم الفوضى، ويتمكن كل مجرم من بلوغ مرامه، واقتراف إجرامه. انتهى. وأما حديث: "فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن... " وهو في صحيح مسلم، فهو مفسَّر بالحديث الذي قبله عند مسلم أيضاً: " من رأى منكم منكَراً، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه.”. وكذلك الأحاديث الواردة في الباب، فالإنكار مقرون بالاستطاعة، وبحسب الأشخاص، وقد فصل هذا الحافظ ابن رجب في شرحه للحديث في جامع العلوم والحكم، ونقل عن الأئمة مالك وأحمد وإسحاق وغيرهم ما يشفي ويكفي، قال أحمد: لا يتعرض للسلطان، فإن سيفه مسلول. وحسب أهل الفتنة في هذا الباب أن يعلموا أن مقدَّمهم وسيدهم في هذا الباب الظالم ذو الخويصري الذي اعترض على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة الغنائم وقال: اعدل يا محمد، الحديث في الصحيحين. وهل وقع قَتْل أمير المؤمنين عثمان بن عفان الخليفة الراشد رضي الله عنه إلا من خلال هذا الباب، حيث مزاعم الأثرة المفضية للخروج والمنازعة والقتل، فابتدأها الغوغاء ضد عثمان رضي الله عنه "سلمية" كما يسميها د. محمد، وانتهت بقتل عثمان والمصحف بين يديه، ولا تزال الأمة الإسلامية تتجرع آثار هذه المنازعة "السلمية" وما أفضت إليه. سادساً: تفصيل ابن تيمية في التعامل مع أثَرَة الحكام: أثناء تحرير هذا التعقيب قرأت للدكتور حاكم المطيري من دولة الكويت دعماً لما طرحه د. محمد العبدالكريم، قدم فيه تأويلاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وأثرةٍ علينا" ولقول عبادة رضي الله عنه: وأن نقول –أو: نقوم- بالحق. حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم. ولكنهما أنزلاه على غير وجهه وخالفا فيه ما قرره أئمة السلف وما علم من عمل وفهم الصحابة ومنهجهم في التعامل مع الولاة، فقول الحق والقيام به، مع عدم المبالاة بلوم اللائم، مقيدٌ بما في النصوص الأخرى من رعاية المصالح العليا للأمة، والحفاظ على اجتماعها وأمنها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يجب العدل على كل حاكم وكل قاسم ؛ لكن إذا قدر أن القاسم أو الحاكم ليس عدلا لم تبطل جميع أحكامه وقسمه على الصحيح الذي كان عليه السلف فإن هذا من الفساد الذي تفسد به أمور الناس... فأما إذا كان في القسمة ظلم ؛ مثل أن يعطي بعض الناس فوق ما يستحق وبعضهم دون ما يستحق ؛ فهذا هو الاستيثار الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم... ومعلوم أن هذا ما زال في الإسلام من ولاة الأمور ومن دخل في هذه الأمور وإنما يستثنى في الخلفاء الراشدين ومن اتبعهم. فإذا كان ذلك كذلك. فالمعطَى إذا أعطِي قدر حقه أو دون حقه كان له ذلك بحكم قسمة هذا القاسم. كما لو قسم الميراث وأَعطَى بعض الورثة حقه، كان ذلك بحكم هذا القاسم، وكما لو حكم لمستحق بما استحقه كان له أن يأخذ ذلك بموجب هذا الحكم. وليس لقائل أن يقول: أخَذَه بمجرد الاستيلاء، كما لو لم يكن حاكم ولا قاسم، فإنه على نفوذ هذه المقالة تبطل الأحكام والأعطية التي فعلها ولاة الأمور جميعهم، غير الخلفاء. وحينئذ فتسقط طاعة ولاة الأمور ؛ إذ لا فرق بين حكم وقسم وبين عدمه. وفي هذا القول من الفساد في العقل والدين ما لا يخفى على ذي لب ؛ فإنه لو فتح هذا الباب أفضى من الفساد إلى ما هو أعظم من ظلم الظالم. والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، ورجحت خير الخيرين بتفويت أدناهما، وهذا من فوائد نصب ولاة الأمور. ولو كان على ما يظنه الجاهل لكان وجود السلطان كعدمه، وهذا لا يقوله عاقل، فضلاً عن أن يقوله مسلم ؛ بل قد قال العقلاء: ستون سنة من سلطان ظالم خيرٌ من ليلة واحدة بلا سلطان. وما أحسن قول عبد الله بن المبارك: لولا الأئمة لم يأمن لنا سبل وكان أضعفنا نهباً لأقوانا. انتهى ملخصاً. وحسبك بابن تيمية إماماً في العلم والدعوة والجهاد، ولا يخفى ما وقع عليه من سجن وظلم، ومع ذلك فهذا قوله في شأن أثَرَة الحكام والتعامل معهم. سابعاً: في الهدي النبوي للحكام وعد ووعيد: ينبغي أن لا يغفل الباحث عن أن الشريعة قد أقامت من مواعظ الترغيب والترهيب للحكام وولاة الأمور ما ليس لغيرهم من عامة الأمة، فمن عدل منهم وقام بالحق نحو الرعية نال الأجور المضاعفة والمنازل العالية وحسن العاقبة، وكان ممن يظلهم الله في ظله، مع حسن العقبى في الدنيا، ومن ظلم منهم فقد جاء فيه من الوعيد ما يتمنى أنه لم يكن أميراً حتى على اثنين، وجاء فيه من الوعيد احتجاب الله عنه يوم القيامة، مع سوء العاقبة في الدنيا، في نصوص يضيق المقام عن سردها. وعلى أهل العلم بيان ذلك بالحكمة والأسلوب المناسب حتى يكون أقبل عندهم وأكثر مواطأة لقلوبهم. دون تشهير أو تعيير. ثامناً: رد لشبهة أخرى حول الأثَرة: ما كنت أظن أحداً فهم أصول الشريعة المطهرة وارتضى القرآن والسنة منهاجاً وسبيلاً أن يدلي بتلك الأقوال المخالفة لهما، وما كنت أظن أن أحداً يتلقفها بالرضى والقبول مع ما فيها من المحادَّة لله ولرسوله، لكنني فوجئت بمن يغتر بها ويصدقها، ومما يؤسف له أن يكون من أولئك مَنْ له التخصص الشرعي والحقوقي، كما وقع من الأستاذ معاذ العودة، فقد وصف منهج أئمة السلف في الصبر على جور الولاة بأنه "عقيدة الجبر"!! حيث كتب في حسابه مؤيداً د. محمد العبدالكريم: "الصبر بلا خطة خروج هي عقيدة الجبر". وهذا اتهام مرفوض واستدراك خاطئ على أئمة العلماء منذ زمن الصحابة وإلى يومنا هذا. ولا أدري أي خروج يعنيه كاتبها!. وقد قدمت من قبل منهج السلف في هذا الباب، وهو ما اتفق عليه الصحابة وأئمة التابعين وأساطين علماء القرون المفضلة، وهم لم يغفلوا الحقوق والواجبات بين الراعي والرعية، بل بينوا ذلك على منهج قويم تتحقق به المصالح العليا للأمة. فماذا بعد الحق إلا الضلال. ومهما يكن من أمر، فهذا أمر الله أنزله إلينا، فمهما حكم الكتاب والسنة فالواجب الاتباع والتسليم، وأما تحكيم العقول في نصوص الوحي فهذا ما حذَّر الله منه، وتوعَّد من سلك تلك الطريق، كما قال سبحانه: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمؤْمِنِينَ إِذَا دعوا إِلَى اللَّهِ وَرَسولِهِ لِيَحْكمَ بَيْنَهمْ أَنْ يَقولوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأولَئِكَ هم الْمفْلِحونَ) [النور:51] وقال عزَّ من قائل: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يخَالِفونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تصِيبَهمْ فِتْنَةٌ أَوْ يصِيبَهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:6]. قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. والنصوص في هذا الباب كثيرة معروفة. وبعد: فقد يستكثر بعض الناس استمرار الردود على المخالفين للهدي النبوي، وينبغي العلم بأن هذا نهج أصيل ثابت في القرآن والسنة، فهما زاخران بالردود على المبطلين وبنقض الأقوال المنحرفة، كما أن من منهج السلف الصالح الرد على المخالف بالحكمة والأدلة البينة، ومن القواعد المقرر: أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وكان مما أوصى به سماحة شيخنا الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله لما جئته في مجموعة من المشايخ وطلبة العلم نعرض عليه كلاماً منشوراً فيه نيلٌ من السّنة واجتراءٌ على الشرع، فقال رحمه الله: ردّوا عليه بالأدلة، الحق معكم، ولا تملّوا مهما تكرر الباطل. والله المسؤول سبحانه أن يهدينا جميعاً سواء السبيل، وأن يعيذنا من مضلات الفتن، وأن يحفظ علينا اجتماعنا وأمننا، وأن يصلح ولاة أمرنا ويوفقهم للقيام بما أوجب الله عليهم من أمور الدين والدنيا، وأن يجعلهم خيراً ورحمة على رعيتهم، إنَّ ربي سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.