وقف بمبذله الأبيض أمام مرآة غرفة الفندق خمس نجوم الذي يقطنه في إحدى رحلاته المهمة إلى واشنطن، بعد يوم طويل حافل بتعقيدات عمله السياسي وقبح دهاليزه التي أقحم نفسه فيها قصدا وبإصرار ليحقّق ما يبدو مستحيلا..! يتفحص ملامحه الخمسينية ويحدث نفسه اللوامة، ياه.. كم عرقها دساس ملامحي وقوة جيناتها دائما لها الغلبة..! قام بابتلاع حبة ترياق صداع الرأس عسى أن يبيد وقتيا إشارات الذاكرة الملحة على دماغه منذ زمن غابر. صور الصبية أقرانه في الدراسة وهم يصفونه بأقسى النعوت عنصرية جهارا، لا تزال أهون عليه من تلك الصور وهم فيها بالغون يتهامسون ويغتابون أصله ومسقط رأس أجداده قبل أن ينجبوه على أرض وحدهم ترابها..! حتى اليوم ورغم كل ما حقّقه لا يبدو أن أصله الذي ومهما قرأ عنه وعن شكيمة ونقاء وحضارة أسلافه، ولا اجتهاده في احترام النظام، ولا تماهيه راضيا مع أعراف اجتماعية لم يرثها، ولا تفوقه الدراسي، كلها لا تشفع لوطنيته أمام هؤلاء الذين لا يهدأون عن النكاية بانتمائه..! ما حباه الله به من ذكاء قد يكون جينيا، لكنه لا يبدو قادرا على مواجهة عقدة النبذ ونارها التي تعتمل بداخله وتؤجج ما وراء الحقد بمراحل. الحقد مشروع وبديهي، هكذا سولت له نفسه الأمارة بالسوء، التي هونت عليه حقيقة نشأته بشخصية هشة مدعية، لا تقوى المواجهة ولا إعلان مواقف، بل فقط الالتصاق بالأقوى على أنه دائما الحل والملاذ!! هذه القوة أصابت أم أخطأت، تماشت مع المبادئ والقيم أم خالفت ..! لا يهم، فكل هذه رفاهية وأعباء فضيلة لا دخل لمن هو مثله بها. سيهادن ويساند الأكثر تجبرا، ولن يشير حتى إلى عيب بسيط. دهاؤه يجعله يعي تماما حقيقة أن منصبه الاستشاري التنفيذي لم يكن له أن يناله لولا قدرته على لعب دور الحكيم المنافق في قصص الأطفال القادر على مدح زي يرتديه سيده وإن كان عاريا..! ورغم كل العز والمناصب، لم يستطع سعادة حضرة المواطن هنا أن ينال قليلا من الاحترام الذي ناله ابن عمه الموظف البسيط في إدارة البريد! كيف يمكنه أن يتصالح مع كل ما جرى ويجري عليه؟ ويقبل بهكذا انتماء، من مثلهم غالبا متهمين فيه من قبل من يتلبسهم شيطان العنصرية؟ وهم على أقل تقدير برأيهم دائما أدنى مرتبة ..؟ لم يستطع أن يفهم، كيف لقريبه أن يضحك من قلبه ويساهم في التندر على نفسه مع أصدقائه..! لماذا لا يشعر مثله بالحاجة للدفاع عن انتمائه ووطنيته...؟ لم ولن يفهم.. فمرآته لا تريه كيف ينظر ابن العم لمن يتطاولون عليه بالنعوت ويحاولون القدح في وطنيته.! فهو ينظر لجهلهم بعين الشفقة، ويحاول توعيتهم بحجم ما يرتكبونه من خطأ، بل ويجعلهم يحرجون من أنفسهم حينما يمارسون أفعالا صبيانية لا تليق بأهل الجود والخلق والتحضر. هو ببساطة يتعامل مع الناس بصفته ابن بلد، محب، أخ ناضج وفاهم، لا يسمح لإيذائهم أن ينال منه في موضع لا يستحقّه سوى غير الواثق من نفسه..! وطنية ابن عمه أقوى بكثير من أن يستوعبها من تآكل الحقد بصيرته، فبات ظالما متجنيا عنصريا طائفيا هو أيضا بدوره على آخرين في وطنه..!.