عادة ما يكون الموظف هو الضحية الأسهل خلال الأزمات الاقتصادية العميقة، وحين تبدأ الشركات والمصانع والبنوك بالتساقط واحدة تلو الأخرى، وفي محاولة منها لتخفيف وتأجيل ذلك السقوط والمرور من العاصفة بأقل الخسائر، تقوم بإعادة هيكلتها وتخفيف مصاريفها، ويكون أول وجبات الترشيد ذلك الموظف، فهو الحلقة الأضعف، فكلما سرحت موظفا، اقتطعت نسبة من المصاريف المتراكمة التي تثقل كاهل المنظمة، وبالتالي رشدت الإنفاق. الغرب عادة ما يمر بمثل هذه الأزمات التي ينتج عنها تسريح وبطالة، نتيجة لتبنيه نظرية السوق القائمة على الاقتصاد الحر، كما أنه يستند في معالجتها على خبرات متراكمة لدى الحكومات والشركات والمجتمع، على العكس من الاقتصادات الأبوية الناشئة. الفرنسيون مثلا، ينظرون للوظائف بعين أكثر إنسانية من غيرهم الغربيين، ويبقى خيار الفصل آخر الحلول، بينما الأمريكان، لأن اقتصادهم مبني على الليبرالية الاقتصادية المتوحشة، لا يتوانون في الفصل والتسريح الفوري لعشرات إن لم يكن مئات الآلاف، متى ما استدعت الحاجة. نعود للفرنسيين، الذين يقومون بوضع أشكال مختلفة من الحلول للخروج من أي أزمة تسريح تواجههم، وسبق وأعلن العديد من تلك البرامج في أزمات ماضية، فيتم اقتطاع جزء من الرواتب المرتفعة، وتقليل ساعات عمل الموظفين، وإعطاء إجازات أكثر بدون رواتب، كل ذلك يأتي لصالح بقاء موظفين آخرين يكون من الملح فصلهم، وبالتالي خفض معدلات التسريح والبطالة، وتوزيع الميزانية على أكبر عدد من الممكن أن تتحمله الشركات. هذه الحلول وغيرها ليست «موديلات» ثابتة، ولا بد لكل بلد أن يبتكر الموديل المناسب له، لعله يحقق أفضل الحلول لمشكلة تسريح موظفيه «الإنسانية»، والتي من المؤكد أنها ستخلق له أزمات متتالية لاحقة. اليوم في السعودية، ومع الأزمة الاقتصادية، ودخول الشركات في مسار الركود والكساد، فالمتوقع أن الكثير منها سيبدأ، أو بدأ فعليا في تسريح موظفيه خاصة السعوديين. بنوك وشركات كبرى ومنظمات ومؤسسات مقاولات، تمرر باستحياء قرارات، وضغوطات لدفع موظفيها المواطنين للخروج والاستقالة طواعية. يجب الانتباه أن ما يحدث لا يمس الموظف لوحده، بل بنية حياة واستقرار مئات الآلاف من العائلات، وهو طوفان قادم، سنكون في مواجهة صعبة معه ومع تبعاته اليوم أو غدا، اجتماعيا وأخلاقيا وأمنيا. في الشارع الاقتصادي، بدأنا نسمع عن موظفين فصلوا، أو تم إبلاغهم بترتيب أوضاعهم، في شركات متوسطة وكبيرة، البنوك الصغيرة قلصت الفروع ودمجت بعضها، وقامت بتسريح الفائض من العاملين، وقد تتلوها بنوك أكبر حجما. إذن لقد بدأ التسريح الذي يخشاه أي اقتصاد، والذي سيصبح بوتيرة متسارعة، لو بقي الاقتصاد كما هو متوقع له في دائرة التحسن البطيء. هؤلاء الموظفون هم في الغالب متزوجون وأصحاب أسر، وبنوا حياتهم على مجموعة من الخطط والمشاريع التي ربطتهم بقروض والتزامات تعليمية سكنية واجتماعية. بالتالي عليهم التزامات مالية ضخمة، ممتدة لسنوات طويلة قادمة، ومن المؤكد أن الضرر سيخرج من نطاق العائلة الصغيرة إلى العائلة الأكبر، مع بطالة شبه كاملة في النساء، وتكفل 25% من السعوديين بتحمل أعباء حياة 75% الآخرين من عائلاتهم. الحواضن الكبرى للوظائف في السعودية خارج القطاع العام معروفة، من أهمها البنوك وشركات الاتصالات، وسابك وأرامكو والخطوط السعودية، ومن في صفها، ولو كنت مشيرا على مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، لأشرت بتشكيل لجنة عليا من وزراء المالية والعمل والتجارة، لمواجهة تلك الأزمة القادمة قبل تفاقمها. تبدأ «المواجهة» من مساعدة الشركات في الإفصاح أولا عن مشكلتها، ودفعها لطلب المشورة، وتقديم حلول مناسبة، قبل حصول «أزمة»، ستمس عميقا روح وحياة السعوديين. لعل من المناسب أن تفكر وزارة العمل والتنمية الاجتماعية في بناء حلول لمعالجة التسريح وتبعاته، وطرح الأفكار للشركات التي يتحقق بالفعل من أزمتها، تبدأ بالتوظيف الجزئي، تقليص ساعات العمل وخصمها من الأجر، إعطاء إجازات بدون مرتب، زيادة الإجازة الأسبوعية يوما ثالثا بدون أجور، التعاقد براتب أساسي فقط، وغيرها من الأفكار التي تساعد في تخفيف الطوفان القادم. كما يجب على وزارة العمل بناء قاعدة بيانات لفرص وظيفية بديلة، وليس الموجود لديها حاليا، فالمسرحون ليسوا شبابا في مقتبل العمر، بل من شاغلي الوظائف المتوسطة والكبيرة، إضافة إلى صرف معونة اجتماعية لفترة كافية، سيصبح المسرح بدونها في حكم المغتال اجتماعيا وأسريا وماليا.