كان مقرراً أن تسري خطة التقشف الأميركية فجر اليوم، لكن الرئيس الأميركي باراك أوباما، وقبل ساعات على بدء تنفيذها المتمثل في اقتطاعات من الموازنة بقيمة 85 بليون دولار، في محاولة لتفادي أزمة جديدة تضرب أول اقتصاد في العالم وتنسحب تأثيراتها على الخارج، وعلى رغم استبعاد التوصل إلى اتفاق، استدعى قادة الكونغرس، واستقبل مساء أمس المسؤولين الكبار في مجلس النواب الذي يسيطر عليه خصومه الجمهوريون، وفي مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه حلفاؤه الديموقراطيون، في اجتماع هو الأول الذي يُعقد منذ اندلاع هذه الأزمة السياسية - المالية الجديدة، بعد سلسلة أزمات سبقتها. إذ في غياب اتفاق سياسي تسري اقتطاعات من الموازنة الفيديرالية بقيمة 85 بليون دولار حتى نهاية أيلول (سبتمبر) المقبل، و109 بلايين سنوياً لمدة ثماني سنوات، ما يهدد النمو الأميركي الذي لا يزال يتعافى من أزمة الانكماش. ويتواجه اوباما وخصومه منذ العام 2011، حين سيطر المحافظون على جزء من السلطة التشريعية، حول الطريقة المثلى لإعادة التوازن إلى المالية العامة، على خلفية الزيادة الكبيرة في الديون المترتبة على القوة الاقتصادية العالمية الأولى، والتي تفوق 16 تريليون دولار. ومع عجز الطرفين عن التوصل إلى اتفاق على جوهر المشكلة، عمدا إلى وضع حلول موقتة لها. وكانت فكرة هذه الخطة الصادرة في منتصف عام 2011 عن البيت الأبيض ووافق عليها الجمهوريون، تقضي أساساً بتحديد اقتطاعات في النفقات تدخل حيز التنفيذ تلقائياً، ويُفترض أن تكون مؤلمة إلى حد يدفع الطرفين إلى التفاوض لإيجاد حل. لكن تبين مع الوقت وفي ضوء تشدد الطرفين وتمسكهما بمواقفهما، أن البيت الأبيض كان متفائلاً أكثر مما يجب، ولو كان أوباما وافق على مبدأ الاقتطاع من النفقات، لكن ظل يطالب بزيادة الضرائب على الأكثر ثراء. وهو مطلب لا يمكن أن يقبل به الجمهوريون، بعدما سبق ووافقوا في كانون الثاني (يناير) الماضي، خلال جولة مفاوضات، على زيادة الضغط الضريبي على هذه الفئة الميسورة. وأعلن رئيس مجلس النواب جون باينر أول من أمس، أن «الرئيس سبق وحصل على زياداته الضريبية». وسأل «ما هو حجم الأموال التي نود سلبها بعد من الأميركيين لتمويل دولة أكبر»، مجيباً أنه «صفر». وكان الكونغرس الأميركي أقرّ في كانون الثاني الماضي، قانوناً قضى بزيادة الضرائب على الأميركيين الميسورين (رفع الضريبة من 35 في المئة إلى 39.6 في المئة للعائلات التي يفوق مدخولها السنوي 450 ألف دولار). وتضاعف الرئاسة الديموقراطية منذ أيام التحذيرات من عواقب اقتطاع 85 بليون دولار من نفقات الأشهر السبعة الأخيرة من السنة المالية، بما يوازي 8 في المئة لموازنة الدفاع و5 في المئة من النفقات الأخرى. وأشارت إلى «بطالة جزئية في أعداد من الموظفين وخلل في عمل الخدمات العامة». لكن اوباما جازف بإثارة استياء خصومه مساء الخميس، إذ رأى أنهم «يتحملون وحدهم مسؤولية الأزمة». وفي سياق معركة العلاقات العامة والإعلام التي يخوضها الطرفان، اتهم الرئيس الجمهوريين، ب«تهديد اقتصادنا بمجموعة من الاقتطاعات التلقائية والاعتباطية في الموازنة، ستكلفنا مزيداً من الوظائف وستؤدي إلى إبطاء الانتعاش الاقتصادي». وكان الرئيس شرح أن «أثر الاقتطاعات لن يكون بالضرورة كاسحاً دفعة واحدة، لكن ستزداد وطأته مع مرور الأسابيع». وقدر صندوق النقد التأثير السلبي لخطة التقشف ب 0.5 في المئة على النمو، الذي لا يزال يتعافى من أزمة الانكماش». واستناداً إلى آلية هذه الخطة، يعود لأوباما واجب إبلاغ إدارته رسمياً بدخول الخطة حيز التنفيذ قبل منتصف ليل أمس (بالتوقيت المحلي، أي الخامسة فجر اليوم بتوقيت غرينيتش)، على أن تباشر الحكومة توجيه رسائل إلى مئات آلاف الموظفين لتحذيرهم من احتمال إحالتهم إلى إجازات غير مدفوعة الأجر. ويمكن أن تقترن هذه الأزمة بأخرى أكثر خطورة، تتعلق بتمويل الدولة الفيديرالية الأشهر الأخيرة من السنة المالية 2013، والذي سيطرح للتصويت على الكونغرس قبل 27 آذار (مارس) الجاري. وفي حال عدم التوصل إلى اتفاق فستضطر الإدارة بكل بساطة إلى إقفال بعض الدوائر العامة. فيما أمل زعيم الديموقراطيين في مجلس الشيوخ هاري ريد، في أن «تدفع جسامة هذه الرهانات الطرفين للتوصل أخيراً إلى اتفاق». التداعيات على أوروبا ولن تقتصر تداعيات الاقتطاعات المالية التلقائية على داخل الولاياتالمتحدة واقتصادها، بل تتجاوز حدودها لتبلغ الاتحاد الأوروبي تحديداً، الذي يمثل الشريك التجاري الأول للأميركيين. وأطلق صندوق النقد تحذيراً، أعلنه ناطق باسمه، من «عواقب ذلك على النمو العالمي»، لافتاً إلى أن «الدول الأكثر تأثراً هي تلك التي تملك علاقات تجارية أقوى مع الولاياتالمتحدة». ويتصدر الاتحاد الأوروبي الجهات التي ستتأثر بتلك الاقتطاعات، إذ بلغت التبادلات التجارية 645 بليون دولار عام 2012. واعتبر اندراس سيمونيي من مركز العلاقات عبر الأطلسي في واشنطن، أن تباطؤ النشاط الاقتصادي الأميركي «لن يكون خبراً ساراً» لأوروبا التي تشهد فيها منطقة اليورو انكماشاً يجعلها في غنى عن هذه التعقيدات الإضافية. وأقرّ مصدر ديبلوماسي أوروبي في تصريح إلى وكالة «فرانس برس»، ب «متابعة المسألة عن كثب ولو أن الغموض لا يزال مسيطراً حول التبعات الدقيقة لهذه الاقتطاعات»، وفق اقتصاديين. وأوضح خبير مجلس العلاقات الخارجية في واشنطن ادوارد الدن في تصريح الى وكالة «فرانس برس»، أن عدداً من القطاعات «سيشهد تأخيراً، وربما يسجل بعض التراجع الطفيف في حجم التبادل». خفض الانفاق يطاول خدمات حيوية وإنسانية باتت الوكالات الحكومية الأميركية بدءاً من منتصف ليل الجمعة السبت (ليل أمس)، ملزمة تقليص نفقاتها السنوية بنسبة 5 في المئة مقارنة بموازنتها الأصلية حتى 30 أيلول (سبتمبر)، فيما تفرض على وزارة الدفاع نسبة اكبر تبلغ 8 في المئة. ولا تملك الوكالات حرية توزيع الاقتطاعات، إذ يجب أن توفّر المال في شكل موحد، ما سيؤدي شهرياً إلى بطالة جزئية في الأسابيع المقبلة، لمئات آلاف الموظفين وأحياناً لأيام. في مجال الدفاع، سينال نحو 800 ألف موظف مدني في وزارة الدفاع إجازة إلزامية يوماً في الأسبوع، وستتقلص رواتبهم 20 في المئة اعتباراً من نهاية نيسان (إبريل) المقبل. وسيحد سلاح البحرية من فترة بقاء سفنه في البحر بنسبة 30 إلى 35 في المئة، فيما سبق الغاء نشر حاملة طائرات ثانية في الخليج العربي. وستُقلّص موازنة صيانة القواعد والمعدات ما سيفضي إلى تسريح عدد من عمال المتعهدين الثانويين. لكن الاقتطاع لن يمس رواتب العسكريين. في قطاع التعليم، ستحد الحكومة الفيديرالية من مساعداتها للمدارس بما يوازي رواتب 10 آلاف مدرس و7200 متخصص بالأطفال من ذوي الحاجات الخاصة. وسيُحرم نحو 70 ألف طفل دون الخامسة من العمر من برنامج «هيدستارت» للحضانة المخصص للفقراء، ما يلغي 14 ألف وظيفة تعليم أخرى. على صعيد نشاط المطارات، سيزداد الوقت الذي يمضيه المسافرون في الانتظار على نقطة الجمارك عند الدخول إلى الولاياتالمتحدة في المطارات الكبرى بنسبة 30 إلى 50 في المئة، وربما يتجاوز أربع ساعات في أوقات الذروة في المطارات الرئيسة على غرار مطاري نيوارك وجون كينيدي في نيويورك، ومطاري شيكاغو ولوس انجلس. وستطول طوابير التفتيش الأمني، نظراً إلى تجميد إدارة أمن قطاع النقل التوظيف وإلغاء العمل لوقت إضافي وإلزام موظفيها ال 50 ألفاً، على أخذ إجازة ربما تصل إلى سبعة أيام. وسيتعرض المراقبون الجويون وغيرهم من موظفي المطارات لعمليات تسريح موقت، ما سيؤخّر الرحلات صيفاً، وإقفال أكثر من 200 مطار صغير وفق إدارة الطيران الفيديرالية. في مجال البحوث، ستضطر المعاهد وغيرها من المؤسسات العلمية التي تتلقى تمويلاً فيديرالياً، إلى إرجاء أو وقف نشاطها، المتعلق بأمراض مزمنة وعلاجات جديدة. كما ستضطر إدارة الغذاء والدواء إلى الاقتصاد، بما سيزيد من بطء الموافقة على عقاقير جديدة، ما يؤثر على 12 ألف عالم وطالب. في قطاع الغذاء، ستضطر إدارة الغذاء والدواء إلى إلغاء 2100 عملية تفتيش، ما يفاقم خطر انتقال الأمراض في الطعام ويكلف قطاع الأغذية والزراعة ملايين الدولارات بسبب خسائر في الإنتاج. على صعيد المحميات، ستُغلق حدائق وطنية كثيرة وعددها 398، في شكل كامل أو جزئي. في خدمات الأمن، سيقلص عناصر الشرطة الحدودية ساعات عملهم بما يوازي 5000 دوام عمل كامل. وسبق أن أفرجت أجهزة الهجرة عن أجانب موقوفين لعدم انتظام أوراقهم القانونية استباقاً للاقتطاعات. وسيخسر مكتب التحقيقات الفيديرالي (أف بي آي) نحو ألف عنصر.