أرسل لي صديق أمريكي من أيام الدراسة صورة ونحن في أيامنا الأولى بالجامعة..كانت الصورة على «الفيس بوك» سقطت الصورة على الشاشة كنسمة جميلة في نهار قائظ كانت محاولة تذكّر كل الوجوه تعاندني قليلاً تصارعت الذكريات في رأسي.. يذوب الأصدقاء في زحمة الدنيا كانت الصورة في أحضان شجرة نقف تحت أكمام أغصانها ترفرف فوقنا تلقي بضفائرها الخضراء الذهبية إلى الهواء انشغلت بالتفكير وأنا أتأمل الصورة تذكرت المكان والشجرة التي التقطنا الصورة أسفلها منذ 40 عاماً ما زلت أحفظ معالم المكان جيداً. تذكرت بعض الأسماء وتاه آخرون كنت أحاول بجهد دؤوب تذكّر الأسماء وفشلت سقطوا من الذاكرة في دوائر الزمن الطاحنة. كتبت للصديق كأي مسن ساذج أن ذاكرتي مرتبكة. كتب لي يبدو أنك تزداد كهولة وحزناً وعجزاً حتى عن تذكر الصحبة والرفقة الطيبة أرجو ألا يكون قلبك قد هرم أيضاً ثم وافاني بالأسماء وأجناسهم ومن عاد لموطنه ومن بقي في أمريكا جميعهم قفزوا إلى ذاكرتي كبركان يغلي في الأعماق. الصيني الذي كان يعبد الكوى شين والياباني الذي ينتمي للكونفوشيوسية والبوذي والمسيحي واليهودي.. كنت أتأمل الصورة في وجوم يشبه الأسى إن لم يكن الحزن أتحسر على أيام مضت سريعاً كالبرق. أفكاري الشاردة تنتظم.. أيام كانت أمانينا تلامس السحاب كنا تشكيلة عجيبة من البشر يختلف كل واحد فيها عن الآخر غير أننا كنا كلنا نمثل الحياة نسعى لتحقيق أحلامنا وآمالنا.. نجري ونمرح ونتعلم تعلماً عالياً ونعمل.. عشنا زماناً عبر دون ضجيج كانت السعادة طفلة تحبو فوق الضفاف تنادينا. كان همنا رغيف الخبز والعقل وبطانية الشتاء ونسمة الفضاء. أحلى سنوات العمر.. كنا نحلم بالربيع في عز الشتاء.. زمان الشجر والفراشات كنا شوارع مغسولة بحب الآخرين والتعايش الودود عندما ينجرح أحد منا نملس على جرحه دون أن نسأل من أي البقاع هو وكان الغريب منا عندما يبكي من ألم الغربة يتصل بكاء من بجواره به يختلط البكاءان بحيث لا يمكن لأحد أن يميز أحدهما عن الآخر كنا نتنفس هواء واحداً ونشكو لبعضنا متاعب الأيام وضيق اليد كنا نفرح لأننا أحياء.. كانت الفرحة تلمع في أعيننا كنا نطير كالفراشات نقدس معنى الحياة نقهقه ضاحكين فيضحك كل شيء في عالمنا لم يسأل منا الآخر ماهو دينك.. وما هو أصلك وما هو فصلك وأين تكون ذقنك لحظة نومك تحت اللحاف أم فوقه. كانت مقولة أمي تتبعني أينما ذهبت «حافظ على مصحفك ولا تخش شيئاً» وكنت في أشد أيام قلقي أتحسس مصحفي الذي أضعه دائماً في جيبي فتعاودني السكينة تدريجياً والتزامنا بالأركان الخمسة وكان المسجد في «لورنس» مقراً نقوم من خلاله بأداء كل أنشطتنا الدينية والتزامنا بمبدأ إحلال كل ما هو نظيف طاهر وتحريم كل ما هو قذر وكنا نحتفل بعيد الفطر والأضحى. تصنع زوجاتنا للجالية المسلمة ولغيرها الحلوى الفاخرة ونقدمها في أعيادنا رمزاً للبركة والشكر لله وكنا نصوم رمضان حال إعلان المركز الإسلامي بدايته ونرتدي أجمل وأبهى ثيابنا ونتدفق على المسجد في الصباح الباكر نستمع إلى خطبة الإمام «صلاح» الفلسطيني الأصل ونؤدي صلاة العيد ونتبادل التهاني في ما بيننا على مرأى من الجميع بالمصافحة والعناق وكان هناك من يأتي باللباس العربي وكانت السيدات يلبسن غطاء الرأس بألوان مختلفة وكنا نحتفل بالأعراس في المسجد وعندما يتوفى مسلم نعرفه نغسله في المكان المخصص والملحق بالمسجد ونشيعه ونواري جسده في مقابر المسلمين كان كل ذلك يحدث في مناخ فريد خاص بنا وكان كل من حولنا يتعاطفون معنا وينتشون لفرحنا ويحزنون لحزنا.. وأفقت من نشوة الذكريات تلك التي حلقت فيها مع تلك الصورة ليتوقف شريط الذكريات ولينتهي بي المقام إلى ما نحن فيه اليوم.. كيف اختفت جلالة المعرفة والتسامح والمحبة وحب الحياة والتعايش مع الآخرين وأصبح الأفق مشوشاً أصبحنا مثل المآسي اليونانية التي تنزع عن البشر إرادة الفعل تحول البعض إلى تماثيل متشابهة كتماثيل نحتت من نفس المادة ولون المكان المحيط به كل ما يحمله الجسد من لحم ودم وجوارح قد استحال بين لحظة وأخرى إلى حجر أصم.. جماد تحركه فتاوى تحريضية جهادية بلون التراب العكر وتسيره أفكار جهنمية خالية من أي منطق أو مغزى أو قيمة وتحول بعض الشباب لمجرمين يكدرون صفو أمان أوطانهم. المحللون يقولون إنه لا يُخلق الإنسان مجرما بطبعه ولكن الوسط والبيئة ومهنة الأبوين والعائلة تشكله فالدين مخافة الله والتربة الصالحة والأسوة الحسنة من الأب والأم هي الأرض التي تنبت نباتاً حسناً ورجالا حقيقيين في زمان عز فيه الرجال.. يقول صلاح جاهين مع أن كل الخلق من أصل طين.. وكلهم بينزلوا مغمضين.. بعد الدقائق والشهور والسنين.. تلاقي ناس أشرار وناس طيبين.. وعجبي!