في حجته الوحيدة (حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة) بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم المناسك الدينية التي ينبغي على المسلم اتباعها بعيدا عن المخالفات والبدع التي لحقت بالحج على مدار التاريخ الإنساني قبل الإسلام؛ بما في ذلك مرحلة ظهور عبادة الأوثان في بيئة الجزيرة العربية. بعض الدراسات تعيد الحج كشعيرة دينية لعهد سيدنا إبراهيم عليه السلام، وبعض الدراسات الأخرى تعيده لعهد سيدنا آدم عليه السلام.. في كل الحالات، عمق هذه الشعيرة في الإنسانية له مدلولاته الفكرية والعقدية. ففرْض الله سبحانه وتعالى لهذه الشعيرة على الخلق -منذ البدايات الأولى- هو تذكير بوضاعتهم أمام الخالق ووضاعة الحياة الدنيا ومتاعها حين البعث والنشور وعرض الأعمال. فالمسلمون يقفون يوم عرفة بكل أعراقهم وأشكالهم ونواياهم متصافين متساوين ليتذكروا أن لا فرق بينهم عند خالقهم إلا بالتقوى. عندها تسقط كل الاختلافات والإقصاءات والأحكام المسبقة على الآخرين. فالكل يؤدي نفس النسك، والله أعلم بالضمائر. يروي الصحابي الجليل أبو ذر رضي الله عنه أنه سابب رجلا فعيّره بأمه، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له: «يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وَلْيُلْبِسْهُ مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم». هذا المفهوم الإنساني الراقي هو أس الحج، فهو -أي الحج- توضيح لمبدأ المساواة بين البشر وتذكيرهم بأنهم عبيد لله وليس لهم من صلاحيات الألوهية على بعضهم البعض ولو بذرة. المملكة العربية السعودية في احتوائها التاريخي السنوي لهذه الجموع البشرية، تمرست في تنفيذ بنود الحج الإنسانية وتحقيق أهدافه في المساواة والاحتواء والتعايش. فهي لا تعنيها النوايا، فالله هو الوحيد العالم بها، ولكنها ترفض تسييس هذه الشعيرة حتى لا يُفسد الأهداف السامية التي تحققها، أو يشوّش على بقية المسلمين الذين يدركون معنى الحج ومكانته في توجيه الإنسانية على مدار تاريخ الإنسان. حج هذا العام هو تتويج لجهود السنوات والخبرات الطويلة المتراكمة، وهو شهادة (المعرفة) Know-how التي اكتسبتها المملكة العربية السعودية في علم تسيير أمور الحج بنجاح.