إبان عملي في أرامكو، كنت بسبب طبيعة العمل أرتفع تارة وأنخفض تارة أخرى في تضاريس سلسلة من التنقلات التي فرضتها حاجة العمل علي وعلى غيري، فتنقلت فترة بين رأس تنورة والظهران وبقيق والعضيلية ولا أنسى بالطبع صحراء حقل غوار المفتوح كجرح أحمر في صدر الأبدية، مرورا بمعمل الحرملية الذي يتلو ليلا ونهارا صفحات نفطه السوداء على البدو ونوق الصحارى العابرة. وفي قفزة شاسعة، أخذتني رغبتي في تغيير المكان إلى محطة ضخ صغيرة مختبئة في كنف الصحراء شمال مهد الذهب فعملت هناك سنوات عشراً، كنت خلالها أمد قدمي في عزلة مائلة إلى الفناء والتلاشي. كنت على صعيد الروح أقاتل من أجل أن أبقى قريبا من عتمة المحبرة وبياض الصفحة، فالأشواك البرية التي ربما حيرها ظهوري المفاجئ في المكان فرضت علي شكلا متوحشا من أشكال العشرة حيث كان علي أن احتمل وخزها في القلب كلما عانقت الكتابة، بينما كان عليها أن تسمح لي بالعبور من خلالها إلى الحياة وضجيج الكائنات المستأنسة والأليفة. من جهة أخرى، كانت مضخات النفط العملاقة تقذف بآلاف البراميل في الساعة إلى شاطئ البحر الأحمر دون أن تعيرني فسحة من الوقت لأتأمل عصافير «الصعو» وهي تتناسل وتموت في أجواف المداخن العالية. كانت تلفني الأنابيب الكبيرة في عويل طويل تطلقه من قلبها كلما زادت على المضخة طلبات الإنتاج، وكنت لا أقدر على الخروج منها إلا بعد أن يحل بديلي مكاني. في ذلك الوطيس المستعر، تمكنت من تخريب شكل غرفتي من الداخل، فبدلا من أن تتلقاني بوجه إسمنتي تغطيه مادة كيميائية مقاومة للحريق، تحايلت عليها وتظاهرت أمامها أني في مدارٍ استوائيٍ يغص بالمطر والأشجار والطيور الجميلة. تصنعت حالات غرق لذيذة كانت فيها الغرفة ذاتها على شكل امرأة تمد لي يدها لتنشلني من الماء. في تلك الغرفة، كنت أكتب قصص مجموعتي الأولى «ذات مرة» على هذا النوع من الحيل والمناورات . كنت أكذب على المكان لأكتب نصوصي ولست أدري لماذا فعلت ذلك؟ يظهر لي أن السبب هو أنني فقدت خصوصية البدوي بمجرد أن توظفت في شركة تعمل أربعاً وعشرين ساعة في اليوم لتنتج نفطها بكميات عزيزة على المنافسة. مسافة كبيرة جدا بيني كوريث حياة بسيطة ترتكز حالات التأمل فيها على القريب والواضح وبين نظام صناعي يفكر بتقنية متطورة كيف يبقى على الدوام جاهزا لتغطية أي نقص للبترول في كافة أنحاء العالم . قطعت تلك المسافة الكبيرة ببطاقة عمل عليها صورتي ورقم شارة مكون من ست خانات. بسبب العجلة، يبدو أنني حبست إنساني الأول تحت غلاف البطاقة .أتصور الآن، أنني بمجرد أن حملت رقم الشارة، فقدت على الفور زولي البدوي الذي كنت أراه ينعكس على جدران المدن ورمال الصحارى، لأمتلك بعده زولاً يشبه الغازات البترولية في ضحالته وسرعة احتراقه. ليس ذلك بالغريب، فسنوات العمل منحت رئتي سفرا طويلا في سحب الغاز، ففوق كل منشأة بترولية توجد سماء لاصطياد غيوم الغاز وتحت كل منشأة بترولية توجد رئات لاستمطارها. لكن الغريب هو أن زولي البدوي لم يعد إلي حتى بعد أن تغيرت طبيعة العمل وانغمرت أنا بظل الدوام المكتبي. الأمر الآخر الذي حيرني كثيرا هو أنني في منطقة مهد الذهب تحديدا ، من عام 1984 - 1994، وفي أوج شعوري بغازيتي اجتاحتني من كل مكان هواجس الشعر العامي، وصرخت في أعماقي ذاكرة نبطية لها قوة الحديد في الطرق. كتبت الشعر العامي فيما كانت يداي منخرطتين في صقل الهواء بأنفاسي الهايدروكربونية. لماذا في ذلك الوقت بالذات كتبت الشعر العامي ؟ لم أكن أعلم سبب ذلك في الواقع، ولم أكن وقتها في موضع المتسائل بقدر ما كنت أتلقى الحالة وأعجنها من ثم بشكلي المتوفر لأبعد عنها صنعة الانتماء إلى شكل ثابت ومحدد. الآن وبعد كل هذا الزمن من التوقف عن تفسير الحالة، يمكن أن أعزو ولعي المباغت بكتابة الشعر العامي إلى كوني كنت أشتغل أساسا في خدمة مادة تنبع من قلب الأرض، الأرض التي ابتلعت الأسلاف. وبناء على هذا التأويل يمكن القول إن الشعر العامي هو بترول آخر ومن غير المستبعد أن يخرج من نفس منافذ البترول الطبيعي ولكن من مكامن جوفية ترقد فيها ذواكر كثيرة تخص الأجداد وأبناء القرون الغابرة.