العشر الأواخر من رمضان الثانية فجرا صباح الجمعة.. يتصل بي ابني ريان باكياً.. جدتي توفيت منذ دقائق.. كان صوته كصافرة قطار يُنبئ بالرحيل.. كانت المكالمة كإبريق فخار أسقطته قطة من رف شباك خشبي فبعثرت أجزاءه في كل مكان.. كل شيء تبعثر فيَّ.. كم هي حياة غريبة فجأة ومن دون مقدمات يحاصرك الحزن كما يحاصر الماء جزيرة من جميع الجهات وتنتشر رائحة الموت في كل مكان.. ما أقسى حدة الشوك عندما يأتيك في هيئة وداع مر.. صباح مر بامتياز.. نلتقي حول الجثمان.. عشر دقائق من العناق والدموع.. كان الجميع يبكي بكاء حقيقياً يخرج من قلب الروح.. كانت مسجاة على سريرها الأبيض بياض الكفن.. كانت كطفلة نائمة في حضن الأبد يميل لونها إلى الأزرق.. ليس ذلك الأزرق الذي خطفته السماء من البحر ليصبح لون الحياة.. تمضي الدقائق متثاقلة كسفينة قديمة تهوي إلى القاع.. تطبع زوجتي على جبينها قبلة مبتلة برذاذ الحنان.. اتنهد صامتاً عاجزاً عن التعبير كانت دموعي تتساقط حزناً.. كانت دموعي تسقط وحدها من دون أن أشعر.. أقف متأملاً ذلك الوجه الذي يفوح برائحة الزمن الصعب.. أبحث في نفسي عن نفسي أفتح بابا للذكرى وأقتات السؤال.. سيدة ما إن خرجت من بطن أمها حتى ظلت تبحث عن مكان على الأرض فيه ذلك الدفء العفوي أمضت جل عمرها في البحث عنه وفي النهاية يتدخل الله ليكون آخر مقام تأوي إليه صامتة بلا روح بيتا من تراب في بطحاء مكة على شكل قبر.. ولدت في فيينا المدينة التي هي عبارة عن قطعة أرض هبطت من السماء العروس الأزلية التي تغسل شعرها كل ليلة بماء الهواء وتغسل قدميها في ماء الدانوب.. البلد الذي يفوح من حجارتها القديمة رائحة العشب الأخضر ويعيش البشر فيها متساوين أمام الشمس والنهر والحنان والحنين وحيث الهواء العليل لا يستثني أحداً.. قدمت إلى الطائف في الخمسينات الميلادية بعد أن تركت ملة «عيسى» واختارت ملة «محمد» وأصبحت الطائف لها موطن الحب الأول والصداقات الأولى.. حيث الكل يعرف الكل والحب يحتضن الجميع.. عاشت تعالج المرضى على حصيرة في ضوء القمر تفحص مرضاها بالجملة وتعطيهم دواء لكل داء.. كانت تعالج الفقراء، والفقراء هم أكرم أهل الأرض.. كنت أتأملها وأتأمل الابتسامة على شفتيها والتي أتقنتها دوما كما أتقنت ارتداء التعب والمصاعب بأناقة.. امرأة أكبر من الألقاب.. أقرب من المسافات.. كنت أحبها حباً لا أستطيع تفسيره.. الحب إذا فسر لا يعود حبا، وكانت هي تحبني ولا تتورع عن إظهار ذلك التحابي.. نستلم الورقة البيضاء.. ورقة عليها بعض الخطوط ومكتوبة بخط اليد «الاسم وسبب الوفاة»، نعود لنقل الجثمان للحرم المكي.. أقول لزوجتي سأشتري لك لباسا أسود واجب العزاء نزلت -رغما- من عينها دمع على خدها الفضي مرت فوق الخد لترسو عند شفتها العليا بكل خشوع.. لم تمسحها أخرجت منديلاً من جيبي وناولتها إياه.. قلت لها أمسحي دمعك.. مسحت دمعتها بكفها.. أجابتني لا حاجة لشراء أي شيء اللباس الأسود لم يُعد أحدا أبدا، وعادت تشيح بوجهها نحو البعيد.. أطرقت برأسي وتنهدت.. هي على حق الرداء الأسود هو من التقاليد ولم يرد ميتا في يوم من الأيام.. الحزن في القلب وليس في الملابس.. تتعاقب ببالي صور حبيبة لذلك الملاك النوراني ونحن نحمل النعش بعد أن فرغنا من الصلاة عليها أحاول السيطرة على بقايا ارتعاش.. فصوت «مي دينك» الذي كان يذكر المؤنث ويؤنث المذكر بالعربية لا زال ينبعث في شراييني.. لازال ذلك الكائن المحبوب يتنفس بنبضه تحت جلدي.. كان الدرب يمشي حيثما اتجه النعش كسهم يركض وحتى استقر في «المعلاة»، كان النعش رقيقاً خفيفاً كأقدام الحمام.. من بين الأصوات المبحوحة وحشرجة الدموع باغتنا صوت جهوري على بعد مترين من القبر رجل أشيب اللحية يتقدم ببطء ووقار حزين يحمل في يده طفلة في كفن يطلب منا أن ندفن الطفلة معها لتؤنس وحشتها.. غرغرت الدمعة في عيني والجسد يحتضن الطفلة والقبر يحتضنهما ويغوصان معاً في غابة الوحدة وبقعة الصمت في بطن القبر انتبهت لدموعي التي غسلت وجهي.. لم يكن غريباً أن أبكي، كان الغريب أن أشاهد ذلك المشهد المؤثر وأغمض عيني عليه دون أن أبكي!!.