نتذكر كيف خطف الرئيس رجب طيب أردوغان الأضواء قبل عقد من الزمان، بنجاحه في القفز باقتصاد بلاده، بعدما ظلت تركيا تعاني تحت وطأة التذبذب بين قبضة الأنظمة العسكرية، والرفض لاحتضانها في الاتحاد الأوروبي. ولم يخْلُ ارتقاء أردوغان السلطة، بعد سطوع نجمه رئيساً لبلدية إسطنبول، من إثارة مزيد من التشكيك في ما يطمح إليه؛ إذ ذهب كثير من قادة دول الجوار إلى أنه يطمح لإعادة الإمبراطورية العثمانية، ومعها توسيع دائرة التأثير والنفوذ في الشرق الأوسط. وزاد ارتياب الآخرين به بعد تحالفه مع «إخوان مصر»، والدفاع عنهم ضد ثورة شعبية رفضتهم. ولم يكن وقوع محاولة انقلاب فاشلة في إسطنبولوأنقرة خبراً مفاجئاً، وإن يكن مثيراً ومذهلاً. فقد ظل الجيش التركي منذ مطلع الستينات من القرن الماضي يطمح للسلطة، لوضع حد لتطلعات «الإسلاميين»، وإبقاء العلمانية التي أرساها مصطفى كمال أتاتورك مطلع القرن الماضي. ولم تهدأ تركيا من ضجيج أحذية العسكر إلا قبل نحو عقدين، بانتهاء نظام الجنرال كنعان ايفرين. لكن ذلك لم يمنع كشف محاولات انقلابية، حتى في عهد أردوغان الذي شهد محاكمات عسكريين برتب عالية بتهمة العمل على تقويض نظام الحكم. وقد فتح أردوغان شهية العلمانيين، وزاد رغبة «الإسلاميين» الذين تخاصم معهم، للتغيير، بعدما بدأ يتصرف باعتباره «الباب العالي»، وليس مجرد رئيس للوزراء أو للجمهورية، وبحديثه الأخير عن دستور إسلامي، بدلاً من دستور أتاتورك. ولذلك ليس مفاجئاً أن ينهض عسكريون يناهضونه للاستيلاء على السلطة. وفي المحاولة الأخيرة كاد أردوغان يفقد عرشه، لولا استنجاده بإحدى أدوات التواصل الاجتماعي التي سعى لقمعها، في إحدى غضباته الشهيرة على معارضيه، خصوصاً أتباع حليف الأمس -عدو اليوم- فتح الله غولن، الذي يبدو أن له نفوذاً كبيراً في الجهاز التنفيذي والقضائي والعسكري، تمثل في سلسلة «الفضائح» التي استهدفت الرئيس وأفراد أسرته، وكانت سبباً في ملاحقة عدد من القنوات الفضائية والصحف التي تناولت تلك المعلومات. وها هو أردوغان قد عاد للحكم مستنداً إلى شرعيته الانتخابية التي وقف معها العالم كله، لكنه لن يضمن النجاة من محاولة أو محاولات قادمة إذا لم يحسن التصرف حيال تبعات محاولة الجمعة الانقلابية الفاشلة. فقد شجع أجواء «انتقام» من المتمردين، وأعمل سلطته الإدارية في رقاب آلاف القضاة والجنود والضباط، بل اتهم أعوانه الولاياتالمتحدة بالتورط في المحاولة، لمجرد أن غولن يقيم في فيلادلفيا. وربما لهذا سارعت النمساوفرنسا لتحذير الرئيس التركي من التعامل مع فشل الانقلاب عليه كأنه «شيك على بياض»، على حد تعبير وزير خارجية فرنسا جان مارك أيرولت، وكأنه «مبرر للتعسف» كما قالت وزارة الخارجية في فيينا. ويعلم أردوغان أكثر من غيره أن ضمان استمرار نجاح حكمه يتوقف على مدى علاقته مع كل التيارات والأطياف، وعدم التسرع في تصفية الخصوم بحجة تطهير تركيا إلا من أصدقائه ومناصريه. والأكيد أن الانقلاب الفاشل لن تكون تبعاته على الضفة الأوروبية لمضيق البوسفور، بل ستتعداه إلى مستقبل العلاقة مع واشنطن، ومنظمة حلف شمال الأطلسي، والتحقق من صدق عزيمة أردوغان على محاربة تنظيم «داعش» الإرهابي. والأهم من ذلك أنها ستترك تأثيراً في الشرق الأوسط، لعل أول دلائله تتمثل في تأكيد القطيعة مع مصر بعد أسابيع من تردد أنباء عن مصالحة محتملة بين أنقرة والقاهرة. يتوقع أن يقدم أردوغان بعض التنازلات في الملفات الخارجية على حساب ملفات داخلية، في علاقات أقوى مع الروس والإسرائيليين وحلحلة قضية اللاجئين السوريين مع الاتحاد الأوروبي. ومن المفارقات أن النظر إلى الماضي بقدر من «النوستالجيا» أدى لكارثة في العلاقات بين روسيا في عهد الرئيس فلاديمير بوتين والغرب، إذ أثار بوتين شكوك الغرب في ما إذا كان ساعياً لاستعادة مجد الاتحاد السوفياتي السابق. وسدد احتلاله لجزيرة القرم الأوكرانية ضربة قاصمة لتلك العلاقات وآفاقها المستقبلية. وإذا لمس الغرب ودول المنطقة شيئاً ملموساً من جانب أردوغان لإعادة المجد العثماني، مع مزيج قاتل من توظيف الأسلمة السياسية، فإن على أردوغان أن يستعد لمزيد من المحاولات التي تستهدف نظامه، خصوصاً أن نسبة كبيرة من الأتراك لا يوافقونه على كل سياساته. والأكيد أن مستقبل الاستقرار والازدهار الاستثماري في تركيا سيبقى رهيناً بانفتاح أردوغان، وتعاونه مع الدول الأخرى لإيجاد عالم يسوده السلام، ولا تحكمه أوهام الهيمنة، ومن المؤكد أن أردوغان غير قادر على إنهاء كل خصومه أو تطهير البلاد من المنافسين، لذلك ستبقى التداعيات الأمنية والسياسية قائمة. [email protected] jameelAlTheyabi@