لم يعد هناك في الدنيا من لم يسمع باسمه، لكن قصة كفاحه حتى بلغ ما بلغه اليوم خافية على الكثيرين، وبها جوانب مضيئة يجب أن تروى بتفاصيلها الدقيقة. الرجل غير نادم إطلاقا على عدم حصوله على درجة الدكتوراه، ولا يدعي النبوغ، ويلتزم بالكتمان وتجنب الأضواء والهروب من الصحافة لأنه يعرف أن أي تصريح يدلي به للصحافة سيهز أسواق العالم، ويفضل تركيز التعليم في أقصر فترة، ويعتبر السعادة أمرا نسبيا يبحث عنه المرء باستمرار وقد يتجسد في تحقيق النجاح في العمل أو رؤية الأبناء أصحاء أو القيام بإنجاز. بدأ العمل في عام 1947 (وكان وقتها صبيا في سن الثانية عشرة يلبس ملابس رثة ويلف رأسه بغترة بيضاء) كمراسل ينقل الأوراق من مكتب إلى مكتب براتب يومي قدره ثلاثة ريالات، في الوقت الذي كان أقصى ما يتمناه هو أن يصبح طابعا على الآلة الكاتبة «تابيست» بسرعة فائقة، ثم ارتقى بطموحه فتمنى أن يتعلم الاختزال، ثم تضاعفت أمانيه مرة أخرى فطمح أن يكون جيولوجيا يجوب الصحاري، وهو اليوم لا يحن إلى العمل ساعيا لكنه في الوقت نفسه يحترم ويقدر من يمتهنونه. ومن جهة أخرى، هو من المؤمنين بأن الحظ يلعب دورا في صعود المرء، ويعتبر نفسه محظوظا لأنه وُجد في الوقت المناسب، وأن المجد يتحقق للإنسان بالجد والاجتهاد ووجود هدف واضح ومحدد، وأن الإنسان البسيط حياته أسلم بدليل أن الذي يعمل في الصحراء لا يعاني من أمراض العصر التي يصاب بها من يعمل عملا لا يحبه أو يعمل تحت ضغوط قد يكون سببها منافسة الآخرين. ويعتقد أن حياة الصحراء تمنح الإنسان الصمود والصلابة، ويعترف بدور المرأة في حياة الرجل، ويقر بأن الحب ينمو في الحياة الزوجية بعد مجيء الأطفال، ويرى أن الشهرة لا قيمة لها ومجلبة للصداع، ويؤكد أنه استفاد من تجربته الوظيفية في تحقيق كل ما يتمناه المرء من خبرة ومعاش وحياة رغيدة، ويعتز بأنه من الجيل العصامي المخضرم الذي يستطيع التكيف مع كل الظروف والأحوال. أكثر ما يغيظه هو رؤية إنسان مقتدر ومتقاعس. أما أجمل الأماكن عنده فهو مكتبته الصغيرة، وأكثر الشخصيات التي يرى فيها مثلا أعلى هو الفاروق عمر بن الخطاب، وأكثر المحاسن الاجتماعية التي يجب الاحتفاظ بها هو الاعتزاز بالتاريخ والوطن والدين، وأكثر العيوب الاجتماعية التي يجب التخلص منها هو المغالاة في الظهور المادي، وأجمل النساء عنده هي تلك القادرة على تحقيق الوئام والمودة داخل أسرتها، وأجمل مناطق بلاده هي المنطقة الشرقية، والشيء الوحيد الذي لا كفاية منه هو الزمن لأن الإنسان قد يكتفي بالمال والجاه ولكن الزمن ليس كافيا مهما طال العمر، وأكثر الأمور إزعاجا له هو أن يضطر لعمل أشياء غير مقتنع بها بسبب المتطلبات الاجتماعية، وأغلى ما يملكه هو علمه لأن التعليم ميزة، وأحب الأشياء إلى نفسه هو الاستمرار في التعلم، وأخيرا فإن الصداقة من منظوره الخاص هو أن يحب الإنسان لصديقه ما يحبه لنفسه. تلك كانت شذرات من حديث صحفي مطول لجريدة الجزيرة السعودية مع الفتى البدوي الذي أبصر النور في عام 1935 في قرية العديلية بالقرب من بلدة الثقبة الملاصقة لمدينة الخبر في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، فكان ميلاده إيذانا بظهور شخصية عصامية مكافحة ستعركه التجارب وستطحنه مرارة العمل وشظف العيش قبل أن يصبح علما من أعلام بلاده يطارده الصحافيون ويتجمهرون حوله أينما حل، ونموذجا للحلم الذي يداعب خيال الآلاف من مواطنيه الشباب، ورجلا يتربع على عرش النفط في أكبر الدول المنتجة له، بفضل التزامه وعلمه وكفاءته وجدارته التي دفعته من القاع إلى القمة، وليس بسبب الواسطة أو المحسوبية أو النسب والحسب والحظوة. المهندس علي إبراهيم النعيمي (أبو رامي) المولود في العديلية الواقعة في جنوبالثقبة لأسرة فقيرة كان ربها قد انفصل عن ربتها بسبب خلافاتهما مما اضطره للعيش مع أخواله والانتقال معهم في مناطق الكويت والأحساء من سن السادسة وحتى السابعة، قبل أن يعود للعيش في كنف والده وأعمامه في العديلية، حيث تم إدخاله إلى الكتّاب لحفظ القرآن، ومن ثم إلى مدرسة ابتدائية حكومية في الخبر. في ذلك السن المبكر يخطو الفتى الخجوصل علي النعيمي أولى خطواته نحو بلوغ قمم المجد! إذ يشير عليه أخوه الأكبر الذي كان قد توظف في شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو) أن يقتفي أثره ويلتحق بأرامكو كي يتسنى له التعلم في مدرسة الشركة التي كانت تعرف ب«مدرسة الجبل» نسبة إلى جبل أم الروس المجاور لمكان المدرسة. وهكذا بدأت رحلة النعيمي التعليمية الطويلة بالدراسة في مدرستين في آن واحد: في مدرسة الجبل النفطية صباحا لدراسة اللغة الإنجليزية، وفي مدرسة الخبر الحكومية ظهرا لدراسة اللغة العربية والحساب والدين. ولعل ما ساعد الفتى الطموح هو أن المدرستين لم تكونا متشددتين في مواعيد الحضور والانتظام. وفي سياق ذكرياته عن يومه الأول في مدرسة الجبل في عام 1945، يقول النعيمي (بتصرف): «أول درس حضرته في مدرسة الجبل كان في اللغة الإنجليزية، وكان هناك استاذ أمريكي له لحية كثة حمراء ، وكنت وقتها في سن التاسعة، وكان شيئا عجيبا بالنسبة لي أن أرى ذاك المعلم الأمريكي يشير إلى السبورة، والجميع يصيح this is a fox (هذا ثعلب)، فرددت مثلهم لأن تلك كانت طريقة تعليم الإنجليزية قديما». ويضيف متذكرا: «أمضيت في المدرسة سنتين لم أكن فيهما قد توظفت رسميا بعد في أرامكو، وكان هذا هو شأن معظم زملائي من أمثال مصطفى أبو أحمد وحسن علي الغامدي، وأحمد الهزاع، وعلي البلوشي». بعد وفاة أخيه الأكبر، يضطر علي للعمل مكانه في أرامكو وهو في سن الحادية أو الثانية عشرة مراسلا ينقل الأوراق والملفات بين المكاتب ويمسح أرضيتها وأسطحها، لكن دون الانقطاع عن دروسه وصفوفه في مدرسة الجبل، حيث كان يعمل أربع ساعات ويدرس مثلها يوميا طوال الفترة الممتدة من عام 1947 إلى عام 1956 إلى أن أتم مقررات مدرسة الجبل كلها بنجاح، الأمر الذي استحق معه أن يبتعث من قبل أرامكو للمرة الأولى إلى الجامعة الأمريكية في بيروت في بعثة صيفية تجريبية كان هدفها الاطلاع على الحياة الجامعية فحسب. عاد النعيمي من بيروت وقد نمت طموحاته وتوسعت معلوماته عن أنماط العيش والحياة خارج حدود بلاده وزاد تصميمه على مواصلة التعليم مفضلا التخصص في علوم الجيولوجيا، فطلبت منه أرامكو أن يذهب إلى حقل نفطي ليختبر بنفسه عمل ومسؤوليات الجيولوجي ويتأكد إن كان ذلك هو العمل الذي يريده. وبالفعل شد النعيمي رحاله نحو إحدى آلات الحفر في أعماق الصحراء الموحشة حيث قضى سنتين من زهرة شبابه وهو يعمل كعنصر غريب وسط جيولوجيين أمريكيين ينظف الرمل الخارج من الحقل النفطي ويقوم بفحصه ثم يقدمه لهم، وهو محرج من وضعه، ويحاول جاهدا التكيف مع تلك الأجواء. ويبدو أن العمل جيولوجيا استهواه بشدة بدليل أنه بعد انتهاء فترة عمله في الصحراء أفصح لرؤسائه في الظهران عن استعداده للذهاب إلى الخارج من أجل التخصص في هذا الحقل العلمي، الأمر الذي كان يتطلب الإعداد المسبق والحصول على شهادة ثانوية معترف بها. ولهذا السبب ابتعثته أرامكو أولا في عام 1956 إلى بيروت لإتمام الثانوية في الكلية الثانوية الدولية. ورتبت له القبول في الجامعة الأشهر والأعرق في الشرق الأوسط وهي جامعة بيروتالأمريكية التي أمضى النعيمي فيها سنتين فقط، نُقل بعدهما إلى جامعة ليهاي في ولاية بنسلفانيا بالولاياتالمتحدة، وهي الجامعة التي منحته درجة البكالوريوس في العلوم، تخصص جيولوجيا في عام 1962. «الخيال» أهم من المعرفة لم يكتف النعيمي بما اكتسبه من خبرة جراء عمله في أرامكو مراسلا، فطابعا على الآلة الكاتبة، فمحاسبا، فمختصا بشؤون الموظفين، فمساعدا جيولوجيا. كما لم تشبع نهمه شهادة البكالوريوس في علم الجيولوجيا من جامعة مرموقة وما يرتبط بها من وظيفة وراتب كبير. كان الرجل يطمح إلى شيء أكبر يفيد به نفسه ووطنه ومواطنيه، فكان ذهابه مجددا -بعد فترة قصيرة من اقترانه بابنة عمه- إلى الولاياتالمتحدة لنيل درجة الماجستير من جامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا في الجيولوجيا الاقتصادية وعلم المياه الجوفية (الهيدرولوجيا)، وهو ما تحقق له في عام 1963 الذي شهد أيضا عودته إلى وطنه للعمل في وظيفة هيدرولوجي وجيولوجي بإدارة التنقيب حتى عام 1967. بعد ذلك، وتحديدا في عام 1969 تمت ترقيته إلى وظيفة ناظر لقسم الإنتاج في بقيق. بعدها كرت سبحة ترقياته وصعوده، فمن نائب لرئيس أرامكو للإنتاج وحقن الماء في عام 1975 إلى رئيس لعمليات أرامكو في ما وراء البحار في عام 1977، إلى نائب أول لرئيس أرامكو لشؤون عمليات الزيت في عام 1978. وأثناء سنواته تلك في تسلق السلم الإداري لم ينقطع النعيمي عن الدراسة. فقد التحق مثلا في عام 1974 بجامعة كولومبياالأمريكية العريقة في نيويورك لدراسة علم الإدارة، وعاد مرة أخرى إلى الجامعة ذاتها في عام 1976 للتخصص في التخطيط الإستراتيجي. وفي عام 1979 أمضى ثلاثة أشهر في جامعة هارفارد ببوسطن بهدف التخصص في الإدارة العليا والتخطيط الإستراتيجي ومحاسبة الشركات، وقال في حفل جماهيري بجامعته التي درس بها البكالوريوس إن الذكاء «عامل مساعد بطبيعة الحال»، ولكن «الخيال أكثر أهمية من المعرفة كما قال ألبرت أينشتاين. فالمعرفة بحد ذاتها ليست مهمة، أما ما نصنعه بالمعرفة فهذا هو المهم». وطبقا للزميلة الشرق الأوسط (29/5/2008) فإنه «طوال تلك الفترة، كان علي النعيمي هو نفسه الموظف الذي أرسى مع زملائه تقاليد العمل، وثقافة الإنتاج في شركة أرامكو التي تقوم على الانضباط والالتزام وتكوين ما يصطلح عليه ب(ثقافة أرامكو)، هذه الثقافة التي تتجسد بشكل كامل في الوزير علي النعيمي، الذي ينطبق عليه بشكل واضح مبدأ (الجدارة) في العمل». وتضيف الصحيفة قائلة: «كان عصاميا، فليس في تاريخه الوظيفي مكان للواسطة، كما كان منضبطا حتى أن موظفيه كانوا يشاهدونه بلباس الرياضة يجلس على مقاعد الانتظار في المركز الصحي بالظهران ينتظر دوره للدخول إلى العيادة. وبالإضافة إلى الإصرار، فإن علي النعيمي الذي يحب العمل بروح الفريق، حاسم جدا في قراراته، ويقول بعض مستشاريه إنه رغم ما يبدو عليه من تواضع وخجل فإنه (صاحب قرار)، على الرغم من أنه يخضع معظم قراراته للنقاش والاستشارة». ومما لا شك فيه أن النعيمي، الذي كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية مقالا عن كفاحه وتدرجه قبل أكثر من أربعين عاما (24/2/1968)، احتك خلال رحلاته الدراسية المتكررة إلى الخارج بمسؤولين كثر، وتعرف على ثقافات متعددة، واكتسب صداقات ومعارف جديدة، ساهمت جميعها في امتلاكه شخصية قوية ورؤى حكيمة وسمعة حميدة. وهو ما نجد تجلياته في قيادته المدهشة لأرامكو حينما عين في عام 1983 كأول رئيس سعودي لها، ثم في مناقشاته وحواراته وجهوده داخل أروقة منظمة الأوبك بعد أن صار وزيرا للبترول والثروة المعدنية في المملكة العربية السعودية ابتداء من عام 1995، إلى الحد الذي نال معه لقب «مايسترو أوبك» من قبل المحلل النفطي الكويتي كامل الحرمي لدوره المشهود في استقرار أسعار النفط. ومما يتردد حول أسباب إصرار النعيمي على النجاح وبلوغ أعلى المناصب القيادية في عالم النفط قصة يقال إنها خلقت حافزا لدى الرجل لقهر المستحيل. وتتلخص القصة في أن النعيمي حينما كان فتى صغيرا للتو قد التحق بأرامكو قادته خطاه ذات يوم شديد الحرارة نحو المخيم الذي يستريح فيه الموظفون الأمريكيون، ولفت انتباهه وجود الماء المثلج فمد يده لكأس من الفلين وبدأ بالشرب إرواء لعطشه. وفي تلك اللحظة لمحه المفتش، وطلب منه المغادرة فورا لأن المكان مخصص للمهندسين الأمريكيين فقط وليس للعمال العرب، فسأله الفتى البدوي ذو الملابس الرثة بإصرار «ومتى عساي أتمكن من دخول هذا المكان والاستمتاع بشرب الماء البارد؟» فكان جواب المفتش الأمريكي: «إذا تعلمت وتدربت وأصبحت مهندسا». ومن المفارقات أن المفتش الأمريكي ظل يعمل في أرامكو إلى أن تولى النعيمي منصب نائب رئيس الشركة. ويقال إنه حينما جاء ذات مرة للنعيمي ليوقع له على إجازة، قال له «أرجو يا سيدي ألا تكون متأثرا حتى اليوم بحكاية طردي لك من المخيم»، فكانت إجابة النعيمي: «بالعكس! لقد أسديت لي خدمة كبيرة». في السابع من مايو 2016، صدر أمر ملكي بإعفاء المهندس النعيمي من منصبه وتعيين زميله المهندس خالد الفالح خلفا له في الوزارة التي تم تغيير اسمها من وزارة البترول والثروة المعدنية إلى وزارة الطاقة والصناعة والثروة المعدنية. كما صدر بالتزامن أمر ملكي آخر قضى بتعيين النعيمي مستشارا في الديوان الملكي. وهكذا أسدل النعيمي الستار على تجربة 70 عاما وهو يستنشق هواء النفط بين حقوله ومعامله وخزاناته وإداراته. * أستاذ العلاقات الدولية من مملكة البحرين