هكذا كانت ساعاتي الأولى منذ وطئت قدماي أرض أفغانستان الأبية، مشاهد وقبور وجنازة شهيد دفنها للتو رفقاء الدرب في منطقة طورخم، بعد أن جلس أحد رفقاء دربه على تلة تطل على الوادي وبنبرة يعلوها الوجع بدأ يسرد علي قصة هذا الشهيد: ياسين الكردي في العام 1412، شاب عراقي خرج من كركوك بعد أن مورس عليه القهر والحرمان من قبل السلطات البعثية وضيق على أسرته وطورد حتى قرر أن يهرب بنفسه لينضم إلى المقاتلين في أفغانستان، وبصوت أكثر حزنا وأقرب للألم الذي يعتصر قلبه أردف يقول: ياسين لا يختلف كثيراً عمن يشابهونه أسباب الخروج من أوطانهم إلى أفغانستان في طول وعرض بلادنا العربية الممتدة، ليكون ياسين وغيره من أوائل المقاتلين الأشاوس وفي مقدمة المقتحمين لساحات المعارك، يصول ويجول كأسد يبحث عن العزة والكبرياء والثأر من الأعداء، حتى ذاع صيته عند العدو وترصدوا له من الخلف، واغتالوه بينما هو يسير بسيارته، حيث اخترقت رصاصة الغدر مركبته واستقرت الرصاصة في ظهره من جهة القلب، ولقد شاهدت السيارة التي كان يقودها بعد اغتياله ومكان اختراق الرصاصة من الخلف ودماءه الندية التي لا يزال أثرها على مقعد الجلوس. بكتك جبال الهند كوش وأن زفت / عليك دموع الحزن كل المرابع جبال ووديان وأرض فسيحة / تسح لفرط الوجد حر المدامع وأمك والأفلاك والبقعة التي / ارتوت بدماء الطهر يوم المعامع تناديك ياسين البطولة والفداء / أجبني رعاك الله إن كنت سامع كانت قصة ياسين محرضة لي كي أخطو خطواته في الإقدام والشهادة، وها قد بدأت معي حكاية أفغانستان في أول نهار أقضيه هناك، لم تختلف حتى الآن عمّا كنت أتصوره وأنا في مدينة الرياض أقرأ حكايات الشهداء عبر مجلات الجهاد التي تصدر كل حين وأتلقفها بكل حب وإعجاب. أطرق صاحبي الذي روى لي قصة ياسين بعد أن اختلط صوته بتنهدات بكائه على فقد أخ عزيز له، وقمت منه وأنا في حالة من الرغبة والجموح أتصور ذهنياً يوم مقتلي وكيف ستكون ردة فعل الأهل والصحبة، وهل سأنال هذا الشرف الذي ناله ياسين الكردي. بعد ذلك رجعت إلى مكان تجمع المقاتلين وبقينا بضع ساعات ننتظر المزيد من القادمين كي نتوجه جميعاً نحو معسكرات التدريب، لم يمض وقت طويل حتى حضر الجميع، كان العدد كبيراً فكان لا بد من وسيلة نقل مناسبة تجمع كل هذا العدد، والمفاجأة بالنسبة لي أن وسيلة النقل المعدة لنقلنا نحو المعسكرات كانت سيارة (6 قلابي) كبيرة كتلك التي تحمل شحنات الرمل والكتل الخرسانية والمواد الثقيلة بعد أن كانت وسيلتنا الأولى حوض وانيت صغير. سارع كل الرفاق بحمل حقائبهم والتوجه لركوب الشاحنة وها نحن من جديد نتزاحم في صندوقها الحديدي الكبير تعبر بنا الجبال ومضائق الوديان إلى عمق أفغانستان. وبينما أنا أتأمل في وجوه الركب والجميع بالكاد يتمسك بما يمكنه كي لا يسقط من فرط حركة الطرق الوعرة بين الجبال لفت نظري وجهان ليسا غريبين عني، تأملت فيهما أكثر فإذا بهما شخصيتان رياضيتان معروفتان لدي جيداً، أحدهم حارس مرمى لناد عاصمي شهير تحول في ما بعد إلى داعية معروف، والآخر لاعب بالفريق نفسه أيضاً، والآن يرأس إحدى اللجان الرياضية في الاتحاد السعودي لكرة القدم، هكذا كان الأمر إذن، فلست أنا الوحيد الذي عشق الذهاب إلى أفغانستان، ولست أيضاً الوحيد الذي يجب عليه أن يأخذ بفتوى بعض العلماء إبان ذلك الوقت في فرضية عين الإعداد والاستعداد، حينها ابتسمت وقلت يبدو أن الجميع متوجهون للوجهة نفسها وإلى ذات الطريق. لا تزال تلك الشاحنة تتمايل بنا بتؤدة وأحياناً أجزم أننا سننقلب وننكب جميعا من شاهق جبلي، فالطرق ضيقة ووعرة وخطيرة، وبينما نحن نسير اصطدمنا بحجر كبير تسبب في خرم حجرة زيت الشاحنة، ما تسبب في انسكابه خارجاً، فاضطررنا للتوقف لإصلاحه سريعاً خشية أن يحل علينا الليل ثم نجد أنفسنا عرضة للكمائن التي يقوم بها من يسمونهم المنافقين أتباع الحكومة الشيوعية بكابل، وبسرعة نزل بعض الهواة ورقعوا (تانكي الزيت)، فكان الحل الوحيد المتاح أنهم عجنوا تمراً وسدوا به مكان تسرب الزيت ومضت الشاحنة تتابع طريقها دون هوادة ولا ملل. بدأت الشمس تتوارى خلف الجبال وحل أول الظلام وأنهكنا المسير حتى بدا لنا من وراء ذلك ضوء بعيد خافت لا يكاد يرى، كانت تلك هي نقطة وصولنا النهائية، وتحديداً مركز توزيعنا بين المعسكرات المتاحة للتدريب. كان المعسكران المتاحان هما معسكرا الفاروق والصدّيق، الأول مدته شهران، والآخر إعدادي سريع لفترة قصيرة تمتد إلى أسبوعين فقط، وأنا اخترت وذهبت مع من اختار معسكر الفاروق، هذا المعسكر التأسيسي الذي أخذ صيتاً كبيراً تخشاه المخابرات العالمية لقوة وفعالية تدريباته، ما حدا بإذاعة BBC بأن تقول عنه إنه يعد جنوداً بمثابة قوة الكوماندوز، ولكن وقبل الدخول في هذا المعسكر حدث شيء لم يكن في الحسبان، فما إن وصلنا بدا لنا حقيقة المكان الذي ستنطلق فيه أولى تدريباتنا العسكرية، مكان في وسط المجهول الممتد بمنطقة برية واسعة التيه، كان كل شيء مهيبا وهادئا ومخيفا يقبع هناك، بين سلسلة جبال شامخة وهضاب وأودية موحشة لا نور فيها ولا مباني سوى خيام بالية منصوبة على تلال تشرف على ساحة ممتلئة بالحراشف والنباتات التي تطل من بطن الوادي المقارب وماء آسن ملوث، ويهب من نسيمه مرض الملاريا المنتشر، وتسمع فيه كل الأصوات التي تبعث على الرهبة، وليل سرمدي ساكن حد اقشعرار الجسد، وباختصار هذا المكان لا يكاد يسكنه حتى الجانّ. وهنا تحديداً تذكرت ملامح أمي - حفظها الله - وقسمات وجه أبي - رحمه الله - اللذين ينتظرانني في الرياض، وإخوتي، وأصدقاء الحارة الأشقياء، والمطعم الذي افتتح تواً في زاوية الشارع العام قبل أن أتذوق كل ما يقدمه من وجبات لذيذة. تشكلنا على مجموعتين والصمت والرعب يعم المكان، وهنا حدثت المفاجأة التي لم أكن أتوقعها، إذ أعلن بعض الذين حضروا معنا للجهاد والتدريب طلبهم العجيب والمثير، طلبوا الانسحاب حالاً ليرجعوا لأهلهم ويعلنوا أنهم لا يستطيعون العيش في هكذا مكان ولا هكذا ظروف. لا تتفاجأوا بالأمر، فالرحلة والمكان والاقتراب من الموت تجعلك تفكر في الحياة التي كنت فيها والحياة الموحشة التي ستعيشها الآن، لقد أعلن بعضهم تراجعهم لمّا رأوا الحقيقة وصعوبة ما هم مقدمون عليه، وقالوا باختصار «نحن ننسحب ونريد العودة إلى أهلنا»، لقد كنت أشعر بذات شعورهم وأكاد أفعل كما فعلوا وأتفهمهم جيداً، فالحياة التي وضعنا أنفسنا فيها الآن لن يستطيع كل أحد أن يحتملها، فليس شيء هنا سوى الموت والخوف والجوع والأمراض والتعب والانقطاع عن كل متع الحياة، وبالفعل انسحب مجموعة ورجعوا إلى بلدانهم عند المحطة الأولى من إعلان بدء المعركة، أما أنا والبقية فقد كنا نشعر بشيء آخر، وهو أننا الآن في أرض البطولة والكرامة والجهاد والشهادة ولن نتراجع خطوة نحو الخلف، وأخذنا حقائبنا وسرنا مترجلين نحو معسكر الفاروق، والآخرون ذهبوا باتجاه معسكر الصديق. (*) مقاتل سابق في أفغانستان