ما إن يرى أحدهم سحنته حتى يتمسرح شظف العيش أمام عينيه، لم يكن الأديب «عبدالعزيز ضياء الدين زاهد مراد»، والذي اشتهر بالاسم عزيز ضياء (المولود في زقاق القفل بمحلة الساعة في المدينة المنورة أوائل شهر يناير من العام 1914)، إلا رجلا ذاق مرارة الأيام، ونكد الدنيا، والفرار من الحب والحرب والجوع في حياته كما عنون ذلك في مذكراته التي تقطر طفولة مبللة بالمتاعب ووعثاء السفر. كما بدأ سكان جزيرة العرب تعليمهم في الكتاتيب، تهجى ضياء أولى الحروف العربية في كتاب الشيخ محمد بن سالم، ثم في المدرسة الراقية الهاشمية التي لم تغادر ذاكرته لأعوام مديدة، ويدين بالفضل إلى أساتذته «حسين طه، محمد صقر، أحمد صقر، وماجد عشقي»، كما جاء في كتاب الإثنينية رقم 26. في العام 1926، أعلنت صحيفة أم القرى افتتاح مدرسة الصحة، وتهافت إليها الكثيرون، لكنه اصطدم لاحقا بأنها مدرسة للتمريض، وأورد قصة في مذكراته حولها قائلا: «كشف لنا المدير العام أن التمريض مهنة شريفة وأن المجتهد سوف تكون له وظيفة (ممرض ممتاز) فهي مدرسة تمريض لا أكثر، لا أكثر، لا أكثر». فلم يمكث بها طويلا، بل فر منها إلى منزل وكيله في محلة الشامية بمكةالمكرمة؛ لأن سكان أجياد يبحثون عنه ليعيدوه إليها، تخفى كثيرا حتى استطاع الفرار في موسم الحج إلى المدينة المنورة. وفي العام 1927، كانت وظيفة «مقيد أوراق» شاغرة في «مديرية صحة» مكةالمكرمة، فهرع إليها يحدوه الأمل أن يلتحق بها، وبعد دخوله إلى الاختبار، حصد المركز الأول بين كل المتقدمين، وهذا ما غفر له فراره من مدرسة الصحة، وشغل الوظيفة، متمرنا على الآلة الكاتبة حتى حقق 50 كلمة في الدقيقة، استعدادا لمسابقة الكتابة على الآلة الكاتبة التي أقامتها مديرية الصحة العامة ورعاها نائب الملك آنذاك الأمير فيصل بن عبدالعزيز، وتلقى ثلاثة جنيهات، وساعة «زينيث» وعجلة «بسكليته». لم يدم طويلا في الصحة وشؤونها، فقد انتقل إلى مديرية الأمن العام بذات المسمى الوظيفي زمنا، ثم ترقى إلى أن أصبح «كاتب ضبط» في مسقط رأسه المدينة المنورة بقسم الشرطة، وعاد بعد أعوام إلى مكةالمكرمة، ليلتحق في دورة عسكرية ويصبح «مفوضا ثانيا»، وبعد تخرجه بزمن عين رئيسا للمنطقة الثالثة بمكةالمكرمة على رتبة «مفوض ثالث». وبطبيعة الشغوف بالمعرفة والتعليم، لم يدم طويلا حتى استقال من الشرطة لينضم إلى مدرسة تحضير البعثات في مكةالمكرمة، ولكي يتغلب على الزمن سافر إلى القاهرة ليختزل الأربعة أعوام في عام واحد، ملتحقا بمدرسة الخديوي إسماعيل، لكنه لم يستطع أن يتجاوز اختباري اللغة الإنجليزية والكيمياء، ورغم محاولاته المتكررة لم يكن الحظ حليفا له. لا يمكن لأي شخصية مرت بشتى أنواع الشقاء أن لا يحقق مراده، ويسعى إلى تعبيد الصعوبات أمامه، لذلك لم يتوقف عند فشله الموقت في مصر، بل سافر إلى بيروت ملتحقا بالكلية الأمريكية، وكانت العقبة الأخرى أمامه هي نشوب الحرب العالمية الثانية، فاضطر إلى العودة إلى الشرطة مرة أخرى. مكث في عمله، يفتش عن إمكان تحقيق طموحاته، فقرر الاستقالة والانضمام إلى معهد التحقيق الجنائي في كلية الحقوق بالجامعة المصرية، وكانت الخيبة الثالثة له بالمرصاد، إذ كانت الأمور المالية عائقا لسد حاجاته وحاجات أسرته في المدينة المنورة، فانقطع عن الدراسة، عائدا إلى وطنته ليحقق مراده، وتطوره المعرفي والعلمي. عين رئيسا لقسم التنفيذ في الشرطة للمرة الثالثة، ولكنه فضل الالتحاق بوزارة الدفاع في بداية تأسيسها على يد الأمير منصور بن عبدالعزيز، ويشغل منصب «مساعد سكرتير أول»، ثم أصدر الوزير أمرا بتعيينه مديرا عاما للخطوط الجوية العربية السعودية حتى نشب خلاف بينه وبين أحد المسؤولين ليفصل من عمله، ويقرر السفر إلى القاهرة. وبعد عامين من إقامته في مصر، غادر إلى دلهي في الهند ليمسي مذيعا مترجما في إذاعتها، برفقة زوجته السيدة أسماء زعزوع والتي عملت هناك أيضا كأول مذيعة سعودية من خارج المملكة. عاد إلى المملكة بعد عامين من الإقامة في الهند حيث عين مديرا لمكتب مراقبة الأجانب. ثم تم تعيينه وكيلا للأمن العام للمباحث والجوازات والجنسية. حياته مع الكتابة بين الجوع والحب والحرب ككل الشغوفين بالأدب والثقافة، والمسكونين بالكتابة عمل عزيز ضياء صحفيا منذ وقت مبكر، في أولى الصحف السعودية الزميلة «البلاد»، وكان اهتمامه ينصب في الشؤون السياسية، لكن شغفه دفعه إلى الذهاب أبعد من ذلك، إذ ساهم في تأسيس صحيفة «عكاظ» وترأس إدارة تحريرها لما يقارب عاما واحدا، لكنه ترأس الزميلة صحيفة المدينة المنورة، ليتم إيقافه عن عمله في أقل من شهرين. اهتمامه بالقضايا السياسية لم يقف عند هذا الحد، بل كتب المقالات السياسية للإذاعة السعودية، ومكث بها ما يقارب 15 عاما ينافح عن آراء وطنه ضد الحملات التي يشنها الإعلام المصري في العام 1967، عندما كان المد الناصري يحاول إسقاط خصومه. وصمد الإعلام السعودي ضد الهجمة الشرسة القادمة من غرب البحر الأحمر، واستطاع السعوديون في مقدمتهم ضياء الذود عن وطنهم بالقلم وأنين الأصابع الملتصقة بآلات الكتابة القديمة. وكتب ضياء العديد من المقالات في مختلف الصحف والمجلات السعودية، ولا تكاد ذاكرة أية مطبوعة وأرشيفها دون أن تحوي رؤاه وتطلعاته، ولأنه الأديب تأثر في تلكم الحقبة بالتيارات المهجرية، وكتب للتلفزيون والبرامج والمسلسلات الدرامية لإذاعة جدة. ولم يكن فشله في السابق في اختبار اللغة الإنجليزية في مصر ذريعة لأن يتوقف، بل تعلمها حتى برع في الترجمة إلى العربية كنوز الأدب الإنجليزي فتجاوزت ترجماته ما يتخطى ال30 عملا روائيا ومسرحيا عالميا لنخبة من الأدباء أمثال طاغور، أوسكار وايلد، سومرست موم، تولستوي، جورج أورويل وبرنارد شو. ولم يكن بالمثقف المنعزل عن مجتمعه بل تصدر مع رفيق دربه الشاعر محمد حسن عواد لضم المساهمات البسيطة في الثقافة والحراك الأدبي المشتت بين المنازل والأمسيات الخجولة إلى فكرة صناعة الثقافة والأدب، والمضي في تكوين مجتمع مدني عبر المؤسسات ليؤسسا في منتصف السبعينات من القرن الماضي الأندية الأدبية، وحرصا أن تكون بالانتخاب، ليكون صديقه عواد أول رئيس لأدبي جدة. فضل ضياء أن يكون استثنائيا منذ أول أيام مراهقته، لذا لا يعمد إلى الركون وأكف الراحة بل جال بلدانا عربية لتلقي العلوم وقطع آلاف الكيلومترات نحو الشرق ليعمل في الترجمة في الهند. كان ضياء بحسب من رافقه وعاصره، أيقونة من الثقافة وشعلة من النشاط، وساهم في إلقاء العديد من المحاضرات الثقافية في مدينته التي عشقها في شبابه (جدة). ويدين صحفيون سعوديون إلى ضياء ورفاقه، تأسيس الصحافة السعودية، ويعدونه إحدى أهم الشخصيات التي خلقت إعلاما وطنيا في تلك المرحلة، وتخطى ضياء تأثيره على إقليمه الحجازي ليكون من أهم الأسماء الثقافية في المملكة. عزيز ضياء أول من اقترح فكرة «الأندية الأدبية السعودية» أمام الراحل الأمير فيصل بن فهد بن عبدالعزيز الرئيس العام للرئاسة العامة لرعاية الشباب بحضور نخب كبيرة من الأدباء والمثقفين السعوديين من مختلف مناطق المملكة لبحث صيغة جديدة يمكن العمل بها لتفعيل الثقافة. وبعد فترة يسيرة من لقاء ضياء بنجل الملك فهد والمسؤول عن قطاع الشباب في المملكة الفنية، صدر قرار بتفعيل الفكرة على واقع المشهد الثقافي السعودي، واقتصرت الأندية في البداية عام 1975، على ست مدن (الرياض، مكةالمكرمة، المدينة المنورة، جدة، الطائف، جازان). توسعت الفكرة التي بدت للمسؤولين مبهرة وخادمة للحراك الثقافي، لتتوالى أوامر افتتاح الأندية الأدبية، في كل من (تبوك، الجوف، الحدود الشمالية، حائل، القصيم، المنطقة الشرقية، الأحساء، الباحة، أبها، نجران). وفي 2005، نقلت عهدة الإشراف على المؤسسات الثقافية الأدبية إلى وزارة الثقافة والإعلام، وكان منها الأندية الأدبية التي بلغ عددها 16 ناديا أدبيا في مختلف أرجاء البلاد، بعد أن ظلت عقودا تحت مظلة الرئاسة العامة لرعاية الشباب. ..عندما تصقل الترجمة النتاج عزيز ضياء أحد رواد المملكة أدبا وفكرا، كما يصنف على أنه من أفضل النقاد بالمملكة، ورائدا لحركة الترجمة والدراما الإذاعية، إذ تشكل الترجمة عنصرا أساسيا في نشاطه، وقدم للقارئ العربي ثمارا من الآداب العالمية في ميادين القصة والمسرح، وعمل في الأعمال الحرة، وأنشأ مؤسسة خاصة معنية بالثقافة والنشر بجدة. وحصل على عضوية المجلس الأعلى لرعاية العلوم والفنون والآداب، وعضوية مؤسس في النادي الأدبي الثقافي بجدة، وقال عنه الدكتور فؤاد الفوزان «هو من الأدباء البارزين في الحجاز الذين يجمعون بين قول الشعر وكتابة النثر القصصي والمقالات السياسية والأدبية»، كما وصفه آخرون «عزيز ضياء طاقة ثقافية، يعد من أكبر أدباء العرب، صاحب جهد ونشاط أدبي وافر». وكونت محاضرات ضياء رافدا مهما للحراك الثقافي كمحاضراته التي حملت عناوين ملهمة ك: «تاريخنا لم يكتب بعد، معنى الانتماء والمسؤولية، التعليم ومناهجه في المملكة العربية السعودية، وحمزة شحاتة». شارك في المؤتمر الأول للأدباء السعوديين، وشارك في عديد من المؤتمرات والندوات بالمملكة وخارجها، ومنحته رابطة الأدب الحديث بالقاهرة شهادة الزمالة الفخرية باعتباره أحد الرواد الذين تفخر بهم المملكة ويفخر بهم العالم العربي في مجالات البحث والنقد والاستنتاج والكتابة في شتى فنون الأدب. في ديسمبر 1997، غادر الأديب الكبير الحياة، بعد معاناة طويلة مع مرض لازمه أعواما، وصلي عليه في المسجد النبوي، ودفن في المدينة المنورة حيث مسقط رأسه تاركا أربعة أولاد: «ضياء (فنان تشكيلي)، دلال (إعلامية ومدير عام البرنامج الثاني جدة سابقا)، عائشة، وعبلة». من أعماله وترجماته : (حمزة شحاتة قمة عرفت لم تكتشف). (عهد الصبا في البادية). قصص من (سومرست موم). (النجم الفريد). (جسور إلى القمة). (تورتة الفراولة) قصص أطفال. (سعادة لا تعرف الساعة). (قصص من تاغور). (العالم عام 1984م لجورج أورويل). (ماما زبيدة). (حياتي مع الجوع والحب والحرب). (عناقيد الحقد) رواية نشرت على أجزاء في مجلة «اقرأ». (آراء في الفن والجمال). (كان القلب يقول).