بعد درس متأن، وشامل، جاءت الأوامر الملكية التي أحدث بموجبها خادم الحرمين الشريفين ما يمكن أن توصف بأنها إعادة الهيكلة الأكبر في تاريخ الدولة السعودية المعاصرة. وهي الأكبر بما تضمنته من إلغاء ودمج لاختصاصات وزارات، وتحويل أجهزة حكومية إلى هيئات عامة، وإنشاء هيئات جديدة، وما نجم عن ذلك من إعفاءات ومناقلات وتعيينات. وهو تغيير مستحق، لأن المرحلة القادمة هي مرحلة تطبيق الرؤية الطموحة للسعودية في عام 2030، وما ستتطلبه النقلة لتنفيذ برنامج التحول الوطني الذي سيعلن الشهر الجاري، وهما معاً (الرؤية والتحول الوطني) يمثلان خريطة الطريق للعبور بالمملكة إلى التنويع الحقيقي لمصادر الدخل، ووضع حد لما سماه ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز «إدمان النفط». وهما خطتان مفعمتان بالطموح، وتتطلبان استعداداً للوثبة، وتأهيلاً للمواطن السعودي ليصبح بقدر استحقاقات التحول الكبير المنشود. ولا شك في أن الأوامر الملكية التي صدرت السبت الماضي تنم عن توجهات الملك سلمان بن عبدالعزيز لما يتعين أن تكون عليه المرحلة القادمة، ورغبته في الإسراع بنقل المملكة لمستويات متقدمة في مختلف المجالات، بما يواكب ثقلها الاقتصادي الدولي، ووزنها الإقليمي والعالمي، ودورها القيادي في العالم العربي والإسلامي. وهي توجهات ستعرف الأجيال السعودية المتعاقبة قيمتها الكبيرة التي ستكفل لهذه الأمة مكاناً يليق بها وسط الأمم والشعوب. ولذلك جاءت تلك الأوامر مواكبة لرؤية المملكة 2030. ويجوز لنا أن نشبهها بجراحة للهيكل الإداري والحكومي، لإزالة «الشحوم»، والتشعبات الزائدة، وتهشيم البيروقراطية من بعض الممرات الحكومية، ووضع تلك الأجهزة تحت أفضل مظلة تكفل تحقيق المصالح العليا للبلاد. وبالطبع فإن المستفيد الأول والأخير من إعادة الهيكلة التاريخية هو المواطن، لأنها ستصب لخدمته، وخدمة المقيمين وزوار المملكة. وسيدرك المواطنون والمقيمون قيمة هذه الإصلاحات حين تتجذر تطبيقات «التحول الوطني»، بما تنطوي عليه من أشكال مختلفة وحديثة من الخصخصة، التي ستُوجَّه بالضرورة لتحسين الخدمات المقدمة إليهم، بسرعة، وجودة عالية، ومعاملة طيبة، وبأقل قدر من التعقيد، أو ما يعرف في الغرب ب Red Tape. وتنطوي الأوامر الملكية على لفتات بارعة في إلغاء ودمج اختصاصات وزارات ترتبط ارتباطاً لصيقاً بحياة سكان المملكة. كما تعني اهتمام المملكة بالبيئة التي أضحت لها وزارة. وللمرة الأولى هيئة عامة للترفيه، تؤكد حرص الدولة على إسعاد مواطنيها ومقيميها وزوارها، ليكونوا أكثر قدرة على العمل، والعطاء. وكذلك الهيئة العامة للثقافة التي لابد أن تقدم أطيب صورة للمملكة من خلال تفعيل أداء المثقف السعودي. وكان توحيد جهات التقويم التابعة لوزارة التعليم لفتة أشد براعة لتوحيد هذا الجهد الحيوي لنجاح العملية التعليمية التي سيطاولها الإصلاح وإعادة التأهيل لتتواكب ورؤية السعودية 2030، ومقتضيات التحول الوطني. كما أن شخصية الملك سلمان في المجال التنفيذي الذي عركه طويلاً قبل توليه الحكم تجلت في المناقلات التي أحدثها بين بعض الوزراء، ليتمكن كل منهم أن يقدم فيه بذلاً أكبر، ومردوداً أفضل، لخير هذه البلاد ومن يعمرونها. وتجيء هذه التعيينات بعد نجاحات مشهودة لهؤلاء الوزراء، خصوصاً وزير الطاقة الجديد خالد الفالح الذي عمل طويلاً في أرامكو السعودية، وتوفيق الربيعة الذي نجح خلال عمله وزيراً للتجارة في ضبط الأسواق، وإعطاء المستهلكين حقوقاً وحماية غير مسبوقة في تاريخ المملكة، وترقية سليمان الحمدان ليكون وزيراً للنقل بعد جهوده في هيئة الطيران المدني التي ستظل تحت عهدته أيضاً. تعني هذه الأوامر الملكية انطلاق قاطرة التغيير لتنفيذ طموح «السعودية 2030»، وهو تحول تاريخي في مسار الدولة السعودية، لن يشمل الأجهزة والوزارات والهيئات والمصالح وحدها، بل سيطاول الإنسان السعودي، إنتاجاً وكفاءة وقدرة وطموحاً، وهي غاية كبرى تستحق التضحية والصبر والاستعداد لأداء أرفع على كل الأصعدة. كان لزاما علينا التغيير، فالعالم لن يقف بانتظارنا، وليس أمامنا سوى التحرك السريع ومواكبة تقدم الأمم وصعود المراكب وفق رغبتنا ورؤيتنا. الأكيد أن القاطرة انطلقت، ولن تكون كل المحطات مفروشة بالسجاد، بل ستواجه الكثير من المطبات والتحديات والمعوقات ووجوه المحبطين والمنافقين والناقمين، ولكن يجب أن لا نتوقف عن إكمال المهمة نحو تحقيق الإنجازات والنجاحات من أجل مستقبل البلاد والأجيال.