تشكلت في مرحلة الثمانينات الميلادية كوكبة من الباحثين الذين آثروا الخروج من عباءة الدراسات الجامعية التقليدية التي استمرت في بلادنا زمنا طويلا، لا يجمع بينهم قيادة أو اتفاق، ولم تضمهم اجتماعات أو ملتقيات، بل كان هناك رابط خفي يجمع أولئك الشباب الذين انضموا تحت لواء الحداثة، وهي هنا الحداثة العلمية التي اخترقت الدرس الجامعي التقليدي فأصابته في مقتل، كان عدد هؤلاء الشبان لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة، لم تكن جهودهم في حينها ناضجة بما يكفي، لكنها كانت أشبه بمستصغر الشرر الذي لا يلبث أن يوقد جذوة لا تنطفئ؛ إذ أسهمت أعمالهم في إحداث يقظة لحركة نقدية واكبت حركة إبداعية متميزة. لن ينكر دور عالي القرشي وعبدالله الغذامي وسعيد السريحي وسعد البازعي وآخرين في تلك الحركة النقدية إلا جاحد، أولئك الشباب في تلك الحقبة الذين جمع بينهم العلم ولا شيء سواه، وتمثل هذا بالتمسك بتلابيب المنهج العلمي الصارم الذي لم يكن متوفرا في أغلب الأوساط الأكاديمية في اللغة والأدب، إذ كانت أكثر الدراسات اللغوية مقصورة على التمسك بالدرس النحوي التقليدي ولم تتجاوزه إلى الدراسات اللغوية الحديثة، أما الدراسات الأدبية فكانت متمسكة باختيار شاعر وسرد حياته وذكر شعره مع شروح أولية ومبسطة. كانت دراسة «الصورة الشعرية في شعر بشر بن أبي خازم» مختلفة في نهجها عن ما هو سائد، وهي في الوقت نفسه الرسالة الناجية من قمع قوى الظلام التي لا تؤمن بالعلم، بعد أن سبقتها رسالة أخرى كان نصيبها المنع والوقف وهي للسريحي عن «حركة اللغة الشعرية»، كان للرسالتين نصيب من كتابة التقارير السوداء التي تحمل مسؤوليتها من لا يعرف المنهج العلمي ولا يؤمن به، وسأقتبس هنا مقطعا من التقرير المطول عن الرسالة الذي نشر في الصحافة السعودية بعد أكثر من ثلاثين عاما، إذ كتب صاحب التقرير التحريضي السري نصا «... كل هذا التقصير أو الإيجاز المخل يهون بالقياس إلى الملاحظة الفاصلة في الرسالة: وهي أن الطالب قد جعلها مجالا لترديد مقولات المذهب الأدبي النقدي الذي ارتضاه، وهو البنيوية والألسنية والسيميولوجية، فإن كان هذا المنهج مقبولا في مقاييس جامعة أم القرى، فلا بأس من مناقشة الرسالة وإظهار ما فيها من قوة أو ضعف. أما إذا هذا المنهج غير معترف به، وكانت مناقشة الرسالة وهي على هذه الصفة تعني الاعتراف بهذا المنهج وإقراره وتعني كذلك أن من حق غيره من الطلاب أن يتبعوه ويتأسوا به فهنا لا بد من إعلان ذلك للكافة وإحاطة المشرفين على الرسائل به وأخذ توقيعهم على استبعاد المنهج البنيوي الألسني السيميولوجي وعدم السماح للطلاب باستخدامه حتى لا يقعوا في مزالق العداء للتراث والولوع بنقض القديم وإقامة الجديد مقامه وتسفيه آراء النقاد والبلاغيين في تراثنا.. إن مثل هذا الصنيع ليس من البحث العلمي في شيء.. بل هو تمرين لهؤلاء الطلاب على الرفض بغير حجة، والولوع بالتغيير لذات التغيير، والخضوع لمقالات فلاسفة العبث والتوهم والملل، الذين يستحدثون الفلسفات والمذاهب، ثم ينقضونها ويبحثون عن غيرها.. وهكذا.. ولا ألقي القول هنا جزافا.. فهذه الرسالة التي بين أيدينا مملوءة بشواهد هذا التأثر بالبنيوية وما يتصل بها.. والخضوع لمقالاتها..». تتفق كلتا الرسالتين للقرشي والسريحي في كونهما أخضعتا لكاتب تقرير واحد، في بيئة أكاديمية واحدة، ولم يكن بهما ما يخالف العرف والدين، وكتبتا بجهود علمية خالصة، قوبلت بالزعم بغموض المنهج، وهو الأمر الذي انعكس على إدارة جامعة أم القرى آنذاك، فانساقت بلا وعي خلف هذين التقريرين، لتسحب درجة الدكتوراه من السريحي، وتهدد القرشي بالسحب إن لم يجر التعديل المطلوب. وللحق أود أن أؤكد هنا أن هاتين الرسالتين كانتا سبقا في التعامل مع المنهج العلمي المختلف في التناول عن ما هو سائد في حينه في الجامعة، كانتا سبقا في الطرح، والنظر إلى موضوعهما بصورة اختلفت عن منظور التقليديين؛ ذلك المنظور الذي كان يجتر مقولاته بإعادة نسخ أطروحاته المتشابهة، بعيدا عن الإطار العلمي الذي تتداوله المنارات الأكاديمية. إن النظر إلى هذه القضية سيجعلنا نعيدها إلى سببين اثنين لا يمكن وصفهما إلا بكونهما يعودان إلى مصالح بغيضة، ليس للعلم أدنى دور فيها، إذ ينتمي الأول منهما إلى تيار يهيمن على الجامعة، ويناوئ المناهج الحديثة ويهاجم التجديد، أما الثاني فهو شخصي تسيطر عليه مشاعر الحسد والهلع الذي انتابهم من هذه المجموعة الأكاديمية التي وقفت في شموخ على أعتاب التفوق في الجامعة، وهو أمر يحدث ولا يزال لكل من حقق امتيازا أو أحدث تجديدا في طرحه في العلوم الإنسانية. كان على أولئك الذين أبدعوا في رسم هذا المسار المشين لمسيرتهم، وارتضوا لعلمهم أن يكون في إطار زائف أن يخلقوا من هذا الاختلاف مساحة للحوار لا مجزرة للفكر، كان عليهم أن يجعلوا تقليديتهم ارتقاء إلى تحديث أدواتهم، لا أن يتمسكوا بمنهج عقيم لا يتسع إلا لهم، وأن يدعوا عاداتهم في تجاوز البعد العلمي إلى ما هو أرقى وأشرف. إن خطأ الذين منعوا منح السريحي الدرجة، وأوشكوا أن يحجبوها عن القرشي، ليس واحدا يتصل بعدم منح درجة مستحقة فحسب، بل هناك خطأ ثان يتمثل في خرقهم كل ما هو علمي وإداري في الجامعة، وخطأ ثالث نابع من محاولة الاحتماء بالدين أمام الآخرين، إذ وضع البحثان موضع الشبهة، وهذه الأمور لا تشرف الكيان الأكاديمي الذي يقدر جهود باحثيه، ولو استمر ذلك فإن معظم الرسائل العلمية في جامعاتنا ستكون عرضة لهذا التناول العابث، وستظل هدفا للإرهاب الفكري المتدرع بنزعات معادية للعلم، ومنافية للجمال. نشر السريحي رسالته في كتاب صادر عن النادي الأدبي في جدة عام 1999، وبقيت رسالة القرشي حبيسة الأدراج ردحا طويلا من الزمن، وبعد نشر التقارير السابقة في الصحافة السعودية ارتأى مؤلفها أن يخرج رسالته للقارئ في كتاب؛ ليكون هذا أبلغ رد على أولئك الذين وقفوا ضدها، وأوشكوا أن يعيقوه عن الحصول على درجته العلمية، ولعل هذا التوقيت للنشر سيشهد حكم المتلقين بعيدا عن اتجاهات غير علمية، ولا يمنع هذا أن يجد المتلقي ملحوظات تتصل بالكتاب كما يتواتر في الأعمال البحثية لكنها لا تنفي العمل بصورة كلية، ولا تتهم صاحبه في فكره أو عقيدته. تأتي أهمية نشر هذا العمل في جانبين: أحدهما علمي والآخر توثيقي؛ يتمثل الجانب العلمي في كون الكتاب يحقق خطوة من خطوات الاتجاه المباشر لدراسة الصورة في الجامعات السعودية، ويحقق مرحلة من خطوات الدرس المنهجي الدقيق في البيئة نفسها؛ يتكون الكتاب من ثلاثة أبواب بعد التمهيد جاء الأول منها للحديث عن «أنماط الصورة» متضمنة التشبيه، والمجاز، والكناية، والصورة الكلية، أما الباب الثاني فهو في فصول ثلاثة: موضوعات الصورة، ورحلة الشاعر، والفعل إنساني. ويشمل الباب الثالث «سمات التكون الفني للصورة» أنواع البناء الفني للصورة، والصورة وسياق القصيدة، والحركة في الصورة، واللون في الصورة، والتحام الحسي بالمعنوي في الصورة. وتشكل هذه العناوين في مجموعها درسا نقديا استقصائيا لموضوع الصورة في تجربة الشاعر الجاهلي بشر بن أبي خازم، إذ أوشكت تلك العناوين الفرعية في الكتاب على معالجة كافة التفاصيل، وذكر دقائق الصورة في شعره. أما البعد التوثيقي فيتمثل في أن هذا الكتاب وجد بوصفه شاهدا على مرحلة، حاول فيه الباحث ارتياد ما هو مختلف؛ وهو الأمر الذي كان لا يتوفر لمعظم الباحثين في تلك الجامعة، ولذلك فإن خوض هذه المغامرة لم يكن معتادا في حينه، ولا يقدم عليه إلا باحث متمرس اختار موضوعه ومنهجه بدقة، وقبل أن يكون بحثه عرضة لأقلام غير مؤسسة علميا، وذلك وثق لذلك الخلاف المتنامي بين حركتي الحداثة والمحافظة، وأشعل الخطاب الديني السجالي أثناء حقبة انطلاقها. وأخيرا يمكن القول: إن هذا الكتاب بصدوره في هذا التوقيت يتيح فرصة الاطلاع عليه من كافة شرائح المتلقين، ويسمح لهم بالحكم النهائي الذي يتحقق بقراءتهم له، ومراجعة ما فيه من أطروحات، فهو الرد الأبلغ والسلاح المكين لصناعة التلقي الذي لا يخضع لسلطة فرد أو مؤسسة، وهو الجواب الكافي عن كل الأسئلة التي تترى في هذا الشأن، والله ولي التوفيق.