قضية سحب درجة الدكتوراه من الناقد سعيد السريحي قبل 28 عاماً بقرار من مجلس إدارة جامعة أم القرى، بعد استيفاء الرسالة الشروط العلمية، تحتاج إلى قراءة سيسيولوجية، فهي قد لا تكون الوحيدة من نوعها، فربما عانى المجتمع من قضايا مشابهة، وقد تظهر على السطح قضايا من هذا القبيل بعد تلك الأعوام. إثارة قضية من هذا النوع من شأنها أن تعيد النظر في قراءة طبيعة الواقع الاجتماعي ومعايير مؤسساته وذهنية أفراده، فتطور المجتمع للأفضل نتيجة طبيعية لتطور وعي الأفراد وتقدم مستوى إدراكهم وحكمهم على الأشياء والأنظمة والمعايير والمكون الاجتماعي من حولهم، وسعيد السريحي أثار تلك القضية في الوقت المناسب، وفي الوقت الذي أصبح فيه المجتمع أكثر تفتحاً وإدراكاً لطبيعته الاجتماعية ومرجعياته الفكرية، أثارها الآن لأن تصعيده للموضوع في تلك الفترة عندما تم سحب الدرجة منه لن يجعل الحال أفضل. السريحي رفض الوصاية الفكرية على عقله، ولكنه لم يُصعّد الأمور حينها لأنه كان مستوعباًً فكرة العزل والإقصاء والتخوف من خطر مجهول حينها، في الوقت الذي لا توجد الأدوات والأساليب العلمية المعرفية للتعامل معه من قبل ذلك الخطاب. وليس غريباً أن يحدث ذلك، فتلك المرحلة شهدت هجوماً على الحداثيين بهدف تطهير المجتمع من أفكارهم، والتخوف من مشاريعهم التجديدية، التي كانت - بحسب زعمهم - تشكل خطورة كبيرة على الأمن الفكري للمجتمع، ولم يثرها في تلك المرحلة لأن وعي المجتمع بأكمله مؤسسات وأفراداً كان خاضعاً لهذا الخطاب المهيمن الذي استطاع أن يطبع ذهنية المجتمع ويشكل وعي أفراده حتى وقت قريب. وقرار كهذا عندما حدث في تلك المرحلة تم التعامل معه بشكل طبيعي ولم يستهجن أو يستنكره المجتمع، لأن هذا الخطاب شكل شخصية المجتمع وتمكّن من وعي أفراده. فالمجتمع في تلك الفترة شكك في موضوع الرسالة واستحقاق الطالب الدرجة العلمية، ولم يساوره شك في الأمانة العلمية للتقويم وقرارات مجلس الجامعة، ولم يتساءل عن قضية غموض المنهج المزعومة. موقف الجامعة بخصوص دكتوراه السريحي حادثة ثقافية عبّرت بكل وضوح عن تخوّف الجامعة من خطر أية ممارسة حداثية، حتى لو لم يثبت حقيقة هذا الخطر ونوعه، لذا لم يكن أمامها إلا ممارسة أسلوب الوصاية الفكرية على الطالب برفض الموضوع وطرح فكرة استبداله. وهذا تمت قراءته واستنتاجه من عبارة غموض المنهج ومخالفته قيم الجامعة. ليست مؤسسات التعليم العالي بالطبع هي من عانت من سطوة هذا الخطاب، فمنابر المعرفة بوجه عام في مجتمعنا تعاني الوصاية الفكرية على العقول، فالرقابة على الكتب وعدم فسحها، وممارسات سحبها من معارض الكتاب، وحجب المصادر الإلكترونية للمعرفة، كلها تعبر عن مظاهر الوصاية الفكرية التي تُمارس في مشهدنا الثقافي السعودي، وهي ممارسة بالتأكيد من الصعب تطبيقها الآن في عصر الانفتاح المعرفي. انسحاب السريحي من الموقف وعدم استبدال موضوع رسالته بآخر، بحسب اقتراحات مجلس الجامعة، يدل على أن هدفه كان علمياً خالصاً وليس هدفاً شخصياً لنيل تلك الدرجة العلمية، فالمجتمعات والمؤسسات الأكاديمية تقاس بنتاجها المعرفي، وقيمة المؤسسة الأكاديمية بما تنتجه من أبحاث ورسائل علمية. وموضوع الرسالة وكشفه عن طاقات تعبيرية جديدة للغة العربية يعتبر إضافة معرفية نوعية إلى الرصيد المعرفي وإلى المكتبة النقدية العربية عموماً. ورسالته العلمية لنيل درجة الدكتوراه في تلك المرحلة الزمنية وبمادة بهذه القيمة المعرفية هو تعبير عن المستوى العلمي للجامعة وليس المستوى المعرفي للطالب فقط. فالسريحي لم يكن خاسراً بالتأكيد، فالتجربة كشفت عن خلل فكري ما في معايير المؤسسة وأُفقها المعرفي، لأنها خاضعة لخطاب مغلق لا يقبل الجديد ولم يوفق بإنتاج معرفة جديدة قد تُحسب له. وعدم قبول الرسالة بعذر الغموض تعبير عن خلل في فكر المؤسسة وليس في المشروع العلمي للطالب. العقاد عندما سمع خبر منحه الدكتوراه الفخرية غضب، وكان أول ما استفز غضبه من سيمنحه تلك الدرجة؟ وخصوصاً أن أصحاب المؤهلات العلمية وكبار مفكري عصره في تلك المرحلة الزمنية هم من تتلمذ على يديه. يذكر أنيس منصور في مقالة له، أن العقاد انفعل جداً حين سمع خبر منحه الدكتوراه الفخرية وهاجم أساتذة الجامعات بقوله: «ثم إنهم لا يقرأون فكيف يمنحونني الدكتوراه؟». ويقول كان يظن العقاد حينها بأن الدكتوراه الفخرية يتم نيلها باختبار معين وذكر: «لم نتجرأ على أن نقول له إنها فخرية لا اختبار فيها ولا مناقشة». العقاد تحسّب لذلك وكان حذراً جداً من التعرض لموقف تقويم يحدد أُفقه المعرفي بمسمى درجة علمية بعد أن حصل على كفاية معرفية مقارنة بمفكري مرحلته ومن هم حوله، الأمر الذي يصعب معه إخضاعه لمعايير لجنة تحكيم قد تتداخل في قراراتها عوامل آيديولوجية، وربما سيكيولوجية واجتماعية، ثم تقرر مصيرة بخصوص «درجة علمية». إثارة مثل هذه القضية بعد تلك السنوات ليس الهدف منه استرداد الشهادة ونيل درجة الدكتوراه بكل تأكيد، كما يوحي الوسم في «تويتر»، بل إلقاء الضوء على طبيعة مرحلة عانت من إشكالات مجتمعية ومعرفية كثيرة بسبب هيمنة خطاب مستبد شكل شخصية المجتمع السعودي وكوّن وعي أفراده وأثر في أخلاقيات البحث العلمي والمعايير الأكاديمية في تلك الفترة، فالقضية الآن ليست إعادة درجة علمية تم سحبها من طالب، فقضية السريحي الرابحة هي استعادة وعي مجتمع ومعايير أكاديمية مستلبة. وهنا شهادات لعدد من المثقفين: معجب العدواني: مجزرة للفكر قبل البدء ينبغي أن نشير إلى أن رسالة الدكتور سعيد السريحي كانت سبقاً في التعامل مع المنهج العلمي المختلف في التناول عما هو سائد في حينه في الجامعة نفسها، كانت سبقاً في الطرح، والنظر إلى موضوعها بصورة اختلفت عن منظور التقليديين، ذلك المنظور الذي كان يجتر مقولاته، ويعيد نسخ أطروحاته المتشابهة والمكررة، بعيداً عن الإطار العلمي الذي تتداوله المنارات الأكاديمية في العالم كله. إن النظر إلى تلك القضية سيجعلنا نعيد أسبابها إلى أمرين اثنين لا يمكن وصفهما إلا بكونهما يعودان إلى مصالح بغيضة، ليس للعلم دور فيها، ينتمي الأول منهما إلى سيطرة تيار يناوئ المناهج الحديثة ويهاجم التجديد، أما الثاني فهو شخصي يعود إلى مشاعر من الحسد والهلع الذي انتاب أولئك من هذا الأكاديمي الذي وقف في شموخ على أعتاب التفوق في الجامعة، وهو أمر يحدث لكل من حاول امتيازاً أو جدد في طرحه في العلوم الإنسانية. كان على أولئك الذين أبدعوا لأنفسهم هذا الرسم المشين، وارتضوا لعلمهم أن يكون في إطار زائف أن يجعلوا من هذا الاختلاف مساحة للحوار، لا مجزرة للفكر، كان عليهم أن يخلقوا من تقليديتهم ارتقاء إلى تحديث أدواتهم، لا أن يتمسكوا بمنهج عقيم لا يتسع إلا لهم، وأن يدعوا عاداتهم في تجاوز البعد العلمي إلى ما دون ذلك، وفي أضعف الإيمان أن يحاوروا في إطار العلم ما يرونه غير مناسب في حينه. إن خطأ الذين مانعوا منح السريحي درجة الدكتوراه ليس واحداً يتمثل بعدم منحه درجة مستحقة، فهناك خطأ ثان يتصل بخرقهم كل ما هو علمي أو إداري في الجامعة، وخطأ ثالث نابع من محاولة الاحتماء بالدين أمام الآخرين، إذ وضع البحث في موقع الشبهة المتصلة بالدين. ولهذا فإن على الجامعة أن تعيد النظر في هذا الموضوع من دون تردد، فوقوع الأخطاء الثلاثة السابقة أمر مرفوض ولا يشرف الكيان الأكاديمي الذي وقع فيه، ولو كان الأمر بهذه الصورة فإن ذلك يعني أن معظم الرسائل الجامعية في جامعاتنا ستكون عرضة لهذا التناول العابث والإرهاب الفكري المتدرع بنزعات معادية للعلم ومنافية للجمال. صالح زياد: الجميع يقع في الجرم يتعجب المرء كيف نجا من قرار مجلس جامعة أم القرى بعدم إجازة رسالة سعيد السريحي للدكتوراه، المشرف على الرسالة ولجنة المناقشة التي أوصت علناً بمنح الدرجة ومجالس القسم والدراسات العليا والكلية التي وافقت على التوصية؟! فالتصديق بالسبب الذي منع المجلس من إجازتها يوقعهم جميعاً في الجرم! وكيف نجت رسالته الماجستير وهي مماثلة للدكتوراه في المنهج والموضوع، من أن يعود عليها القرار بأثر رجعي فيلغيها؟! وكيف نجت من المحاسبة إدارة المطبوعات التي أجازتها للنشر، ونادي جدة الأدبي الذي نشرها؟! وكيف نجت نظرية عبدالقاهر الجرجاني في البلاغة التي تُدرس في الجامعة وغيرها وهي فكرة مؤسِّسة في اللسانيات الأسلوبية التي كانت لب المنهج المعترض عليه؟! قرار الجامعة الصادر قبل 27 عاماً، يعيد عدم إجازة الرسالة «لما اشتملت عليه من أفكار وعبارات ومنهج غامض لا يتفق وتعاليم ومبادئ العقيدة الإسلامية، إذ ظهر أن هذه الرسالة متأثرة بمناهج غربية غريبة عن قيمنا وبيئتنا ومجتمعنا الإسلامي» والغموض في فكرة أو عبارة أو منهج لا يصلح بإطلاق سبب للانتقاص أو الإلغاء، وإلا لكان مبرَّراً ومشروعاً أن يحمل غير المتخصصين على علوم الفيزياء والرياضيات – مثلاً - لأنهم لا يفهمونها. وهذا يذكِّرنا بما أورده الشيخ التويجري وحافظ وهبه وغيرهما عن موقف الإخوان الذين حرَّموا الآلات الحديثة، في الأربعينات من القرن الماضي. أما أن المنهج «متأثر بمناهج غربية» فلست أدري هل ستحسب الجامعة ما اعتادته من تسجيل رسائل الدراسات الأدبية آنذاك في عناوين على شاكلة «فلان حياته وشعره» في سجل المناهج غير المتأثرة بالغربية؟! فالمؤكد أن ما اعتدناه وما لم نعتده من مناهج الدراسات الأدبية وغيرها هو نتاج التقدم النظري الذي لم نستطع الإسهام فيه حديثاً، ونسبته إلى الغرب أو الشرق هو فعل آيديولوجي لا صلة له بنسبته العلمية. هكذا لا يصلح السبب الذي تذرَّع به مجلس الجامعة لإلغاء الرسالة. وهذا يعني أن هناك سبباً آخر غير معلن، كما يعني أن الرسالة خالية من أي سبب علمي أو ديني يوجب عدم إجازتها. أما السبب غير المعلن فلأنها لسعيد السريحي، الاسم الأبرز في مجال الحداثة الأدبية، في حضوره المنبري، ونشاطه الصحافي، وعضويته في نادي جدة الأدبي، ولأن الزمن هو زمن صعود التطرف الديني المعروف بالصحوة. ومؤدى ذلك أن إلغاء الرسالة ليس جناية على صاحبها، فهي جناية مؤسسة جامعية حكومية ارتهنت لتيار آيديولوجي، وانتهكت لأجله الأعراف والأخلاق العلمية والإدارية وطوَّعت القرار الرسمي! أرأيتم لو أن أحد أبنائنا المبتعثين، وهم يدرسون على يهود ونصارى وملاحدة، عومل منهم مثلما عومل السريحي بسبب آيديولوجي: أي فظاعة يكون مثل هذا الجرم؟! وهل يكفي أن نقيسه بالمقاييس العلمية والأخلاقية؟! وإذا كانت الجامعة حرمت أحد طلابها من درجته لرغبة خصومه المتطرفين أو لإرضائهم، فكيف يوثق بمنحها لمن منحتهم؟! إن جامعة أم القرى لم تجن على السريحي، بل على كل طلابها وأساتذتها، وعلى التعليم العالي في المملكة.