{ كشف الدكتور عالي القرشي عن الأجواء التي كانت تسود في جامعة أم القرى خلال مرحلة الثمانينات، واشتداد الصراع بين الحداثة والمحافظين، وتأثير ذلك في البحث العلمي. عالي القرشي، الذي كان أحد ضحايا التيار المتزمت، يسرد ل«الحياة» كيف نجا من حرمانه من درجة الدكتوراه، ويوضح حقيقة ما كان سائداً آنذاك. إلى تفاصيل الحوار: كنت جزءاً من مرحلة اتسمت بالتوتر والتشدد حيال كل ما هو حداثي في الأدب والبحث العلمي، وكنت أيضاً موضوعاً للتشدد، فحدثنا عن ذلك التيار الذي سيطر طويلاً على ذهنية مؤسسات المجتمع بما فيها الجامعات؟ - التيار المتطرف كان يتغلغل عبر ما كان يسمى ب«الالتزام»، وهو مفهوم ظاهره التقيد بأوامر الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وكان لا بد على من يريد أن يوصَف بذلك من التقيد بمظاهر متعددة، ولما كان الناس هنا مسلمين ومتقيدين بشرع الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، سهُل إملاء هذه المظاهر عليهم، ومنها: إطالة اللحية، وتقصير الثوب، والتخلي عن العقال، وسهُل عليهم توجيههم إلى الاستماع لما يقوله ويوجههم به كل محاضر وواعظ ملتزم، حتى ولو لم يكن صاحب حديث أو فقه، وكثروا لأنهم يجدون الأتباع بكل سهولة، ومن هنا سهُل إقناع الناس حتى أصحاب الدرجات العلمية العليا بتحريم وتفسيق كثير من الأمور، منها الصور، وانساقت جامعة أم القرى في هذا فخلعت صور ولاة الأمر من قاعة المحاضرات الكبرى بمقر الجامعة بالعزيزية، التي كانت موجودة بالجامعة منذ أيام العميدين: عبدالوهاب أبوسليمان عميد الشريعة، وعبدالعزيز محيي الدين خوجة عميد التربية. وكان من هذه المظاهر في الجامعة الحساسية من العناوين، وحدثني السريحي الذي كان عنصراً فاعلاً في اللجنة الثقافية العامة بالجامعة، كيف أنهم نزعوا ملصقات دعوة وإعلان عن محاضرة لحمد الجاسر، كان عنوانها: الآثار في مكة، ليصبح العنوان «التراث في مكة». وكانت الحداثة القشة الضعيفة التي يسهل تجريمها وتكفيرها، كَفّر القوم الحداثة وفسّقوها، واستعانوا برجال دين، وكان كتاب «الحداثة في ميزان الإسلام» لعوض القرني المليء بالتفسيق العياني يوزع في الجامعة، «وللدكتور عثمان الصيني قراءة لسياق المرحلة مع الكتاب، أتركها له»، ولما رأوا أن ذلك لا يكفي، لأنهم أرادوا أن يسعوا إلى نخب أعلى بدعم الشباب الذين انخرطوا في سلك الالتزام، جاءوا بأكاديميين ليس لالتزامهم، لكن لمكانتهم الأكاديمية، جاءوا بالأستاذ الدكتور محمد مصطفى هدارة، وهو الذي تقْطُر كتبه حداثة، لكن القوم لا يعلمون ما الحداثة، ولا يهمهم إلا تكفيرها، لأنهم رأوا أنها وسيلتهم في إقصاء كل فكر متجدد لا يمتلكونه، جاء هدارة وفسَّق الحداثة بدعم من تكبير الشباب الذين رأوا أن ذلك يعزز مقولات مشايخهم، ثم رأت الجامعة أن تلاميذ لطفي عبدالبديع هم القناة، والباب الذي يُفتح للخروج من هذا الفكر العميق المتجدد وارتداء الالتزام بالفكر التقليدي. ماذا عن تجربتك في نيل درجة الدكتوراه وهي مشابهة لتجربة سعيد السريحي، من الجامعة نفسها جامعة أم القرى؟ - حين وَجَدَت الجامعة الطريقة الملتوية لحجب الدرجة عن سعيد السريحي، وَجَدَت أن من الحرج أن تجيز الدرجة لعالي القرشي على رسالة منهجها حداثي، وتحجبها عن السريحي الذي تولى البحث في حداثة الشعر منذ أيام العباسيين، وقبلها في أبي تمام. وسبق أن أشرت - في مدونتي على «فيسبوك»، التي كتبتها عن هذا الموضوع - إلى حكايتي مع المناقشة. كيف نجت رسالتك إذاً وهي ذات منهج حداثي؟ - أخذ القوم يفكرون في الطريقة، ولما جاء التوجيه من وزير التعليم العالي بالنيابة بناء على خطابي له، وجدوا أن عدم المناقشة لي أو حجب الدرجة لا ينفع، ظهر ذلك من الاستقبال الجميل الذي استقبلني به المدير بحضور الدكتور حسان القرشي رحمه الله، الذي كان يريد أمراً آخر منه، وحرص ألا يكون دخوله معي، وذلك لأنه ساغ في أذهان كثر أننا فُسُق، ولا أظن الدكتور حسان رحمه الله دار في خلده ذلك لكنه كان يتقي الحرج، وهنا أقول لا سامح الله من كان يقول بذلك، أو تصرف على ضوئه، ولن أبيح إلا من طلب مني السماح، إلا من توفاه الله فإني أبيحه ابتغاء مرضاة الله غفر الله لي ولهم. أقول إنه في ذلك اللقاء أخذ مدير الجامعة يحفزني بأني قرشي وأن قريشاً منهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأخذ الأمر بعد ذلك يأخذ مجراه في اتخاذ الأمور التي وجه بها عميد الكلية شكلياً اتقاء الحرج، مع منع الدرجة عن سعيد، فأصبح المدير يتأكد من سلامة المنهج، بحضور وكيل الجامعة للدراسات العليا والبحث العلمي، حتى إنه في أحد لقاءاتي معه ذكر ما مضمونه أن درجة الدكتوراه تسمى بالفلسفة، وأن الجامعة لا تمنح هذه الدرجة إلا لمن يؤمن بفلسفتها ومنهجها، طبعاً لم أعترض لأن منهج الجامعة إسلامي، وأنا ولله الحمد مسلم أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، حدثت بهذا صديقي الدكتور عائض الثبيتي، فقال: لو رددت عليه، وهل أنت تؤمن بفلسفة وانتماء الجامعة التي منحتك الدكتوراه، قلت لم تحضرني بداهتك. وفي بعض اللقاءات كان يذكرني ببلاغة القرآن الكريم، التي لم أنكرها يوماً ما. يبدو أنه تأكد من منهجي، ووجهني لمراجعة الكلية التي أخبرتني أن المناقشة ستتم بإشراف الدكتور عبدالعظيم المطعني رحمه الله، وقمت بتعديلات أعترف أنها شكلية، فمصطفى عبدالواحد كان يرغب في أن تجرى التعديلات التي يراها على عينيه، وشعرت أنه يريد أن يغتال كتابتي، ويريدني أن أكتب أفكاره، ونجحت في تجاوز هذا المأزق، حين اختير لي المشرف الأزهري الدكتور عبدالعظيم المطعني رحمه الله، فكان مريحاً لي غير متشدد، يقنع بأبسط تنفيذ لاقتراحاته، وراضياً بحرية تناولي للصور البلاغية، حين طلب تأخير الباب الأول وجعله الباب الأخير، بعنوان «التناول البلاغي للصورة». رحمه الله وأسكنه فسيح جناته. هل تعتقد أن هذا التيار نال آخرين في جامعة أم القرى وفي جامعات أخرى، وهل ترى امتداداً له إلى اليوم؟ - برز لي من خلال التفاعل مع قضية سعيد ومع موضوعي أن هذا التيار نال آخرين، وكُتب ذلك عبر مقالة لفاطمة العتيبي في «الجزيرة»، ومقالة لإبراهيم البليهي، وشتيوي الغيثي، أشارت هذه المقالات إلى تأثير هذا التيار في بعض الجامعات، وإلى أسماء تضررت من ذلك. كذلك أشارت تغريدات لحمزة المزيني إلى مثل ذلك، وفي أحد التعليقات على ما أشرت إليه في «فيسبوك» حول هذا الموضوع، للصديق الزميل صالح إمام برناوي، الذي سجل رسالة ماجستير بإشراف لطفي عبدالبديع حول الموت في شعر المرقشين، أشار إلى المضايقات التي ضُربت حوله، حتى ترك الرسالة، وبهذه المناسبة أناشده أن يستكمل الموضوع وينشره في كتاب غيرة على الموضوع، ولطفي وصالح من أن يكون قد لُطش من بعض مختلسي الدرجات العلمية. أما عن امتداد هذا التشدد إلى الآن فسأذكر حادثة شهدتها، إذ كنت مناقشاً لرسالة دكتوراه في إحدى الجامعات العام الماضي، ووجدت في الرسالة كلاماً مكتوباً ببنط مغاير يناقض أفكاراً في الرسالة، وكان معي في المناقشة الدكتور أحمد درويش، سألت الطالبة عن سر هذا التناقض، فأجابتني ويا لهول ما أجابتني به، أن هذا الكلام طلبت مني أن أكتبه لجنة بالجامعة تراجع الرسائل العلمية قبل إجازتها، وأظن كلام الطالبة مسجلاًً بصوتيات المناقشة، وكانت هذه الإملاءات ذات فكر آيديولوجي متشدد. طبعاً لم أقبل هذا الكلام وطلبت أن يحذف من الرسالة، وفوضت الدكتور أحمد درويش بمتابعة ذلك حتى يتم التوقيع على مناقشة الرسالة، وهنا أستذكر الدكتور محمد حبيبي الذي سجل أطروحة بعنوان الاتجاه الإبداعي عند الشعراء السعوديين، الذي اضطر إلى الاقتصار على فترة محددة وجيل محدد، لئلا يصل إلى الشعراء الحداثيين، وهم أكثر وأعمق تمثيلاً لهذا الاتجاه. لماذا لم تفعل مثل سعيد السريحي وتترك التعديلات التي طُلبت منك وتدع الرسالة؟ - طبعاً لكل واحد قناعاته، وأنا أحترم قناعة الدكتور سعيد، وإنما استمررت في الأمر لأني وجدت أن التعديلات التي أجريتها تعديلات شكلية لم أكتب فيها غير ما كنت مقتنعاً به، أما الدكتور سعيد فطلبوا منه أن يحيل الرسالة من موضوع به فكر وإبداع وهو البارع في ذلك، إلى أن يكون تحقيقاً لمخطوط، وهذا أمر صعب جداً، وكنت أريد من الاستمرار في أخذ درجتي العلمية مقاومة ذلك التيار المتشدد وإملاءاته، وذلك ما فعله أخي سعيد أيضاً حين بادر إلى طبع رسالته في كتاب، لكي يظهر فكره للناس من غير سلطة الجامعة. هل تعتقد أن جامعة أم القرى لا تزال في هذا التشدد ضد حرية الفكر والإبداع فيه؟ - لقد تحولت جامعة أم القرى منذ أن أُبعد عنها راشد الراجح قائد التيار المتشدد ضد الحداثة تحولاً واضحاً، إذ أنتجت رسائل حداثية، «ولي حديث موسع في هذا الموضوع في مدونتي»، ومن علامات هذا التحول أنها استدعت عثمان الصيني مناقشاً لرسالة دكتوراه فيها، واستدعتني مناقشاً لرسالتي دكتوراه كانت عناوينها ومضامينها حداثية، وفي هذا الصدد أصبحت محكماً لعدد من الأبحاث فيها في المجلة العلمية وغيرها، ونشرت في مجلتها أبحاثاً يحمل بعضها مضامين حداثية، وحول هذا أزجي الشكر لمن دعاني ونشر أبحاثي، إذ شعر أن في ذلك رد اعتبار لما لقيته من معاناة فيها، ورد اعتبار لحقوق العلم والمنهج وحرية الفكر والإبداع. تجدد الفكر يستمر بتجدد الروح الإنسانية أوضح الدكتور عالي القرشي أن أساتذة الجامعة في تلك المرحلة لم يكونوا كلهم متشددين في مواجهة الحداثة، «فلطفي عبدالبديع غرس الحداثة وروح البحث الجديد في الجامعة على مدى 14 عاماً، وكذلك كان أساتذة مشهود لهم بالفكر المتجدد، وتوظيف النظريات الجديدة في الأدب والنقد واللغة، كان هناك علي أبوالمكارم، تمام حسان في اللغة، عبدالحكيم راضي، عبدالحكيم حسان، عبدالبصير عبدالله حسنين». وعمّا إذا وجدت مواقف إيجابية من قضيتيهما، قال:نعم، حدثني سعيد عن تقرير إيجابي كتبه الأستاذان: إبراهيم الحاردلو، محمود فياض عن رسالته حين أزمتها. ولا ننسى الأستاذ الدكتور حسن باجودة الذي كتب تقريراً إيجابياً عن رسالة سعيد ورضي أن يشرف عليه، ثم كتب تقريراً بصلاحيتها للمناقشة ونوقشت. أيضاً الدكتور محمد مريسي كتب تقريراً عن رسالتي بوصفه عميداً للكلية ضد ما أثير عنها. وختاماً أقول إن تجدد الفكر يستمر بتجدد الروح الإنسانية، ولا أحد يمكنه أن يحجب ذلك أو يقف في طريقه، وتحدثت سابقاً عن أطروحتين حداثيتين دُعيت لمناقشتها بجامعة أم القرى».