قبل 35 عاما، تزوج شاب سعودي بفتاة برماوية تحمل جوازا باكستانيا بطريقة غير رسمية، لينجب طفلة صغيرة، بيد أن الزواج لم يعش طويلا، لتسافر الزوجة لخارج البلاد في ظروف غامضة وتأخذ الطفلة معها دون تسجيلها بأوراق ثبوتية، وبسفر الزوجة كتبت فصول جديدة لمعاناة الطفلة التي ستعود إلى السعودية بإقامة باكستانية ومنسوبة لغير أبيها (زوج أمها الثاني)، وسط تعتيم للحقيقة من والدتها. وفي أحد ممرات الدوائر العدلية بالعاصمة المقدسة، كانت مريم (اسم مستعار) تسعى جاهدة لإقناع الجهات الرسمية بفحص حمضها النووي لتؤكد انتسابها لوالدها السعودي، ولتحصل على حق مواطنتها وأوراقها الرسمية، وبعد أن عقد جلسة قضائية في محكمة الأحوال الشخصية بمكةالمكرمة (حصلت «عكاظ» على نسخة من الصك)، خرجت مريم بما تريد، «صكا يؤكد انتسابها لوالدها السعودي عقب تطابق الحمض النووي». تقول مريم التي أكملت ربيعها ال35 قبل أيام ل«عكاظ»: إنها حرمت من العيش مع والدها السبعيني، وظلت حبيسة ما وصفته ب«الكذبة» حول حقيقة والدها، إذ ظلت أمها تؤكد لها بأن والدها هو زوجها الباكستاني، كما حرمت من المكوث في وطنها بشكل رسمي، إذ ظلت مجهولة الهوية بجواز سفر لايمثلها إلا أنه يعينها على تدبير تفاصيل حياتها الدقيقة. وتعيش مريم في سكن لا يحمي طفليها من الخطر المتربص بهم من الحشرات والزواحف في ضواحي العاصمة المقدسة، مطالبة بتوفير منزل يوفر الحد الأدنى من الأمان، ومساعدات تعينها على تحمل أعباء الحياة. عاشت (مريم) طفولتها تتستر ببيوت متهالكة في الحواري العشوائية بمكةالمكرمة، تتنقل برفقة والدتها البرماوية وزوجها الباكستاني من مسكن إلى آخر، كحال المخالفين لنظام الإقامة، لتقضي أكثر من عشرة أعوام من عمرها على هذا الحال، ثم لتبدأ فصول جديدة من حياتها في باكستان بعد أن قبضت الجوازات على والدتها ومجموعة من أهلها وتم ترحيلهم، بحسب روايتها. وتصف مريم حياتها في باكستان بالمشهد المليء بنظرات المتطفلين، «الكل ينظر لي باستغراب، هم يرون في ملامحي حقيقة لم تحك لهم، إني لا أشبههم، حتى أن أحدهم قال لي إن ملامحي كملامح سكان الجزيرة العربية، كنت لا أشبههم بشيء سوى اللغة». وتضيف مريم: مرت الأعوام وأنا أظن أن الرجل الذي أعيش معه هو والدي، حتى عدنا إلى المملكة مرة أخرى، عندها قد تجاوزت ال20 عاما، وتزوجت من مقيم باكستاني وأمضيت معه عدة أعوام؛ ليحين الوقت الذي أكتشف بأن الرجل الذي عشت معه طفولتي والذي أحمل اسمه ليس والدي بل كان زوج أمي، كانت صدمة كبيرة على فتاة أصبحت للتو زوجة وتنظر إلى الحياة بتطلع وتفاؤل كبيرين. وترجع مريم بذاكرتها إلى عقود مستعينة بشهادات الجيران والأقارب، لتخرج بنتيجة تؤكد أن والدتها خطفتها عندما كانت ابنة الشهر بعدما تطلقت من والدها، وهربت بها من المنزل وتوارت عن الأنظار، وتزوجت من شخص آخر (باكستاني) ونسبت إليه، وبقي السر سرا، واستمر التهرب من الإجابات على أسئلتها عن سبب استنكار الناس في باكستان لها وعدم تقبلهم لها، حتى تمكن عمها ووالدها السبعيني من الوصول إلى خالها والتحدث إليه بشأنها، ومن ثم التقت به وعرفت تفاصيل الحقيقة التي كانت تخفيها والدتها، بحسب شهادة مريم التي أدلت بها ل«عكاظ». وتضيف مريم: «والدي الذي حرمت منه طيلة ال35 عاما الماضية هو الآن رجل سبعيني بالكاد يتحرك ويعيش ظروفا مادية صعبة جدا، فقد حصل مؤخرا على صك من محكمة الأحوال الشخصية بمكة يقضي بثبوت نسبي له، وتطابق تحليل البصمة الوراثية لإصدار هوية وطنية لي من الأحوال المدنية، إلا أنني تفاجأت بأن الأمر ليس بهذه السهولة وقد يتطلب وقتا طويلا لاستخراج هويتي وكافة الوثائق الرسمية. وتشير مريم (والدة لطفلين أحدهما يبلغ 6 أعوام والآخر لم يكمل العامين)، إلى أن تأخر الحسم في أرواقها الثبوتية، يحول بينها وبين طلب المساعدة المالية والاجتماعية من الجهات الرسمية، «لأنني لا أمتلك أرواقا رسمية، أنا مجهولة في بلدي». ومن منزلها الواقع في أحد الأحياء العشوائية في مكةالمكرمة، تشير مريم إلى أنها تتشاطر السكن مع زوجها وطفليها، مع الحشرات ب«حوش» صغير لا يقيهم حرارة الأجواء المعروفة ببطحاء مكة. في مساءات مكة، يستنير الأب وزوجته وطفليهما بنور خافت معلق بسقف الحجرة الخشبي والمتآكل ويأكلون من صدقات المارة وأحيانا لا يجدون ما يأكلونه قط، فزوجها لا يعمل بسبب ظروف إقامته غير النظامية، ووالدها رجل طاعن في السن فقير. وتأمل مريم أن ينتهي فصل معاناتهم وتخرج أرواقها الثبوتية لتستطيع العمل واستخراج أوراق ثبوتية لطفليها حتى يتمكنوا من التعليم، واللافت أن السيدة التي تنتظر أوراقها الثبوتية شديدة الحرص على مستقبل طفليها، إذ تحلم أن يكونوا متعلمين ويتجنبون المعاناة والألم.