كما لو كان حلما وحقولا.. الثبيتي. هكذا قد أراه، أنا ومجايلي من الشباب، الذين أتينا بعد مرحلته الصاخبة، ولم نحظ بصداقته، والتعرف على متن شخصيته، باعتبار التجارب الإبداعية هي الهامش الحر، الخالي من هندام التغاضي، والشارح وعورة الدرب الوجودي، وصلافة القدرية الشعرية مهما بدت ناعمة وسبب رئيس لحب الحياة. وأقول حلم وحقول.. لأن محمد الثبيتي من خلال تجربته، استطاع أن يجعل للأجيال اللاحقة جسرا ساربا صوب حداثة النص، وتطور شكله وموضوعه ومن ثم انبلاج سلالته، من التفعلية وحتى النثر، وصولا للنصوص الفضائية المطلقة.. بعيدا عن سلطة الكلاسيك، وزنازين التزمت النصي، وذلك بعد أن كان –الثبيتي- ورفاقه من الأساتذة المبدعين الكبار، ضحايا المرحلة الحتمية، تلك المرحلة الضارية التي وقعت عندنا، بعد أن تأخرت عن مناطق النص العربي في بلاد الشام والعراق ومصر. وفي هذا الوقت الذي انفتحت فيه المنابر، لكتابة كل الأشكال، والتعابير، قد تكون أهمية التجربة الثبيتية لا تقتصر في وضع الدولايب الحداثية بالمكتبة الشعرية في المملكة وحسب، بل إنها تجربة مصدرية ومرجعية لفهم التطور النصي في هذه البلاد، والتعرف على عمقه وأبعاده، ومن ثم الوعي بأهميته الحداثية المؤثرة في جوانب الحياة كلها، بدءا بتحطيم التراث المتوحش الجاثم على صدر حاضرنا، وحتى شراء فرشاة الأسنان من الصيدلية في زاوية الحي، هذه الأهمية التي غابت عن متصدري الوقوف ضد الحداثة، أو ربما لم تغب عنهم، بقدر ما كانوا خائفين منها، وهي أصيلة في تطور المجتمعات والشعوب، وواردة لا محالة. محمد الثبيتي.. هو ضحية الشعر، وأحد أبطال شعلته الأبدية، خانه الإهمال، وصنعت منه القصائد تمثالا في فضاء البيد، أنجب نفسه، ووارت ثراه القافية، وفي ظروف العالم العربي التي أجبرت الأجيال والمجتمعات على اختيار رموز إبداعية، كان محمد الثبيتي رمزا للحجاز وللخليج، وكما أن الرموز عصية على النسيان والترك، فإن الثبيتي بعيد عن الوداع، مسور بالتذكر والخلود. ولقد تشرفت أن يكون الشاعر محمد الثبيتي جزءا من مسرحيتي الأخيرة [سراة الشعر والكهولة] التي كتبتها في افتتاح سوق عكاظ 2015، وإني أتذكر الآن السبب الرئيس -الفني- الذي جعلني آتي به في العمل، وهو أنه شاعر كامل، إنه كامل بالفعل.. فمع موهبته الرهيفة والعميقة، ونضاله الحداثي الضروري، كان حزينا، وكانت الدنيا تجفاه، والطرقات تصده.. هكذا، كما يليق بشاعر كبير، وكما ينبغي لأسطورة الشعر: طريق شائكة، وأصدقاء بالقرب، لكن بشكل متقطع. مال قليل، وغربة لا تنتهي إلا في الرحيل، حتى إذا كان الرحيل، صار الأهل كثيرين، وتهافت النقاد والكتبة يسألون عن التركة، بعبارات وأساليب رقيقة.