دعونا اليوم نتجه بمنظارنا التحليلي السياسي الصحفي البسيط نحو الشمال المباشر لعالمنا العربي، وتحديدا إلى تركيا وعلاقاتها المتوترة الراهنة مع الدب الروسي. لقد حمي وطيس الصراع مؤخرا بين الدولتين، روسيا (الدولة الكبرى، ومشروع الدولة العظمى)، وتركيا الدولة الكبرى متصاعدة النفوذ والتأثير الإقليمي والعالمي. روسيا تهدف دائما، منذ عهد القياصرة، مرورا بالمرحلة السوفيتية، حتى روسيا بوتين، لكي يكون لها موطئ قدم في المياه الدافئة جنوبا... أي في المنطقة العربية. وذلك من أهم العوامل التي تسببت، في الماضي والحاضر، بتأزم العلاقات التركية-الروسية، وغيرها. فعندما كانت المنطقة تحت الحكم العثماني، كانت تركيا تمنع الروس من التمدد جنوبا، وما زالت -إلى حد ما- تقف حجر عثرة في سبيل تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي الروسي القديم-الجديد. كما أن هناك بعدا دينيا عقائديا خلافيا بين الطرفين، يتمثل في ضغط الكنيسة الأرثوذكسية الروسية على الحكومة الروسية، لتضغط على الحكومة العثمانية سابقا لإعطاء الأرثوذكس نفوذا في كنيسة المهد في بيت لحم. والآن، تحاول الكنيسة الروسية أن يكون لرعايا تركيا من الأرثوذكس بعض الامتيازات. وتلك الضغوط كانت من أسباب الحروب التي خاضتها روسيا ضد تركيا، في الأعوام 1828، 1829، 1853. ولكن، يظل الهدف الأكبر لروسيا تجاه المنطقة هو لوجستي، أي أن يكون لها تواجد عسكري وسياسي دائم بالمنطقة. **** ومعروف أن ما أشعل الصراع الأخير بين الجانبين هو: إسقاط تركيا الطائرة الروسية المقاتلة «سوخوي»، لاختراقها الأجواء التركية. اعتبرت روسيا بوتين ذلك عملا عدوانيا، وإهانة كبرى موجعة لروسيا، ولزعيمها بوتين تحديدا، وتوعدت باتخاذ كل الإجراءات الممكنة للرد على هذا الفعل التركي. ولكن، هذه الحادثة لن تعيق الروس عن محاولات التوغل جنوبا. فالوقت الآن هو الأنسب لروسيا لتحقيق هذا الهدف العزيز بالنسبة لها. العالم العربي منكب الآن على نفسه، ومنشغل في مشاكله وأزماته الحادة... ولا يبدو أنه يمانع في التدخل الأجنبي الاستعماري، بل يطلبه، في كثير من الحالات. وعلاقات روسيا مع إيران هي الآن علاقة شبه تحالف، رغم أن حروبا كثيرة نشبت في الماضي بين الروس والإيرانيين. والغرب بدأ يقلل من انخراطه بالمنطقة، وإن كان لن يتركها أبدا. كانت إيرانوتركيا والغرب والعرب، وحتى تركيا، يحولون دون تمدد الروس صوب جنوب حدودهم. أما الآن، فالأبواب كلها مفتوحة أمام الروس، ليؤسسوا لتواجدهم ونفوذهم المتزايد في المنطقة، خاصة وهم ينطلقون في الوقت الحاضر من شبه جزيرة القرم التي أصبحت مؤخرا روسية خالصة. الروس عائدون إلى المنطقة، وبقوة... وأكثر الشواهد على ذلك وجودهم المكثف حاليا في العراق وسوريا. وهذا التواجد الروسي لا ينسجم -دون شك- مع أغلب مقتضيات الأمن القومي العربي، ناهيك عن استقرار وسيادة هذه الأمة. بقي أن نشير إلى أن المواجهة العسكرية الساخنة بين تركياوروسيا تظل مستبعدة، لعدة أسباب، أهمها: عضوية تركيا في حلف «ناتو» العسكري، الذي يضم إضافة لتركيا 28 دولة غربية، تتزعمها الولاياتالمتحدة. وبذلك، فإن المواجهة العسكرية غالبا ما ستميل للتصاعد، لتصبح حربا عالمية ثالثة مدمرة، ليست في مصلحة أي طرف. من الوارد والمحتمل أن تندلع الحرب العالمية الثالثة من هذه المنطقة، ولكن ليس بسبب هذا الحدث. لن تتعدى ردة الفعل الروسية إجراءات سياسية (كدعم حزب العمال الكردستاني) واقتصادية عقابية... يمكن أن توجع تركيا، وتوجع الروس أيضا، ربما بنفس القدر. [email protected]