يقال إن الأشجار المثمرة والعالية لا تثمر أو تزداد ارتفاعا ويقوى عودها وتغرس وتتعمق جذورها في الأرض إلا بعد أن تواجه العواصف والأعاصير والصواعق والأمطار والبرد والحر الشديد، والذي يدفعها إلى غرس عروقها في أعماق الأرض ليشتد عودها ويقوى جذعها ويزداد تماسكها لمواجهة صعوبات الطبيعة. وكذلك تبنى شخصية الإنسان فيصبح قويا متماسكا حمولا بصبره عند مواجهة الكوارث والصعاب والمعوقات والمواقف الصعبة في الحياة، وينطبق هذا على اقتصاديات الدول والخطط الاقتصادية المبنية على أسس قوية لا تهزها الأزمات الاقتصادية أو العواصف السياسية أو الاضطرابات والزلازل الطبيعية، ويتباطأ نموها ولكنها لا تموت أو تنهار، بل تعود أقوى عما كانت عليه. وتنطبق هذه النظرية على القيادة الناجحة التي تستطيع أن تدير المواقف في الظروف الصعبة سواء كانت ظروفا اقتصادية أو سياسية أو عسكرية أو أمنية. ويذكرني هذا بحوار قديم دار بيني وبين وزير مالية دولة أفريقية عربية فقيرة اقتصاديا قبل 35 عاما عندما انتقدت إدارته للأزمات الاقتصادية ببلاده وامتدحت أمامه وزير مالية بلادنا وأوضحت مناقبه العديدة من الذكاء والعلم والفطنة والخبرة والقدرة على إدارة اقتصاد بلادنا بنجاح وقد كان كذلك فعلا، فأجابني صديقي وزير مالية تلك الدولة الأفريقية قائلا أرجوكم أقنعوه أن يتولى وزارة المالية في بلادي الفقيرة الموارد وأكون له تلميذا أتعلم منه ليصنع من بلادي دولة غنية صناعية لتكون ضمن الدول الصناعية في العالم. وكأنه يقول لي إن القضية قضية موارد أولا ثم إدارة للموارد ثانية. والحقيقة أن المرحلة التي نمر بها اليوم والمرحلة القادمة لاقتصاديات الدول المنتجة للبترول والمعتمدة على دخل البترول في دعم ميزانياتها بنسبة تصل إلى 90% في بعضها، سوف تضع هذه الدول وتضع وزراء المال والاقتصاد فيها في اختبار صعب للخروج من أزمة الاعتماد على المصدر الواحد للدخل والبحث عن مصادر دخل أخرى مساندة وداعمة لدخل البترول أو بديلة له في المدى البعيد. وهذه هي سياسة وخطة خادم الحرمين الشريفين الحكيمة التي أعلن عنها في لقائه الأخير بمجلس الشورى عندما ألقى خطابه التاريخي في سياسة المملكة الاقتصادية القادمة عندما ركز على أهمية (تنويع مصادر الدخل) وهي بمثابة الإعلان عن التحول من الاعتماد على مصدر واحد إلى مصادر متعددة وفق خطط مدروسة تنفذ دون تأخير. إن أزمة تدهور أسعار النفط المبررة وغير المبررة تدفعنا وبكل قوة للبحث عن البدائل وهو أمر ليس مستحيلا، ولكن يحتاج إلى تعاون مشترك ابتداء من الترشيد في الإنفاق الحكومي والأهلي، ومرورا برفع كفاءة الإنفاق على المشروعات ذات العوائد الإيجابية، وصولا إلى المشاركة الشعبية في تحمل المسؤولية عن طريق تقبل قرارات العودة إلى الأسعار العادلة بكلفة الطاقة المدعومة سابقا، وحتى بعد الزيادة التي لن تلحق ضررا على ذوي الدخل المحدود أو العالي المرشد للاستخدام. إن الإعلان عن عجز 367 مليار ريال في ميزانية هذا العام لا يعتبر أمرا مقلقا إذا بحثنا وطورنا مواردنا الأخرى غير المستغلة أو المحصلة. وعلى سبيل المثال فإن تعديل أسعار بيع الطاقة للمستهلك سيوفر للميزانية دخلا إضافيا قدره (26.2 مليار ريال) سنويا، ومن المؤكد أن هناك مصادر أخرى عديدة ستعمل على سد العجز دون إرهاق المواطن منها تغطية العجز عن طريق الاستدانة المحلية من البنوك، شريطة عدم التأثير على قوتها الإقراضية للقطاع الأهلي، وألا تسهم في رفع نسبة الدين العام، علما بأنها في أقل المعدلات حسب البيانات المتوفرة لم تتجاوز 7%. إن التركيز على سياسة الموارد البديلة للبترول كدخل أساسي في المرحلة القادمة يعتبر من أهم السياسات التي اتخذها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان خلال فترة توليه الحكم. ولو توجهت السياسات الاقتصادية لتدعم هذه التوجه في مختلف القطاعات سوف نضمن استمرارية طويلة للتنمية في بلادنا دون تقلبات أسعار البترول، متمنيا على الغرفة التجارية الصناعية بجدة أن يكون عنوان منتدى جدة الاقتصادي القادم هو (تنويع مصادر الدخل) يستقطب فيه خبراء اقتصاديون سعوديون وأجانب ذوو خبرة عملية لتقديم تصور مستقبلي لتنويع مصادر الدخل في المملكة. والمرحلة تتطلب التركيز على موضوع رئيسي يرتبط بجميع المواضيع الاقتصادية الأخرى. [email protected]