تظل ذاكرة القرويين مستودعا للأنسنة في أبهى وأجل صورها (الذكريات صدى السنين الحاكي) وكانت القرية تضن بوقت تصرفه على سماع مذياع أو أسطوانات الشنطة (البيكم) نهارا مهما كانت الظروف إلا في المناسبات السعيدة كالأعياد وليالي الأفراح والسهرات الملاح. كانت القرية في منطقة الباحة منذ خمسين عاما تجتمع بأكملها في منزل أحد أفرادها للاستماع إلى مذياع ليلة دخول رمضان أو عند إعلان نتائج الطلاب أو مع صدور ميزانية الدولة عندما بدأ الوعي بالشأن العام يتسرب إلى المكونات الاجتماعية الريفية ببركة العاملين في شركة أرامكو. لم يكن زمن الصورة والبث الفضائي حاضرا في المشهد، كما أن توفر المذياع من الأمور الصعبة كونه يدرج في خانة الكماليات عند القرويين بل هو دليل ترف وعنوان نعمة في مجتمع إنتاج يكدح من مطلع الشمس إلى مغربها في المزارع والمراعي ويعود منهكا لا يفكر إلا في مد الجسد المنهك والاستسلام للنوم، ويستعيد العم عبدالله حمدان السعدوي تلك الأيام. وأشار إلى أنه اقتنى المذياع في السبعينات الهجرية برغم أن أهل القرى يعيبون على من يعود من الغربة براديو حتى قال شاعر القرية: (الغامدي لو تغرّب جاب سيارة، ما هوب ذا غربته شنطة مع الرادي) وجاء به لأهل قريته في زمن كان البعض يعتقد أن الجن هي التي تتحدث من الراديو كونهم يسمعون الصوت ولا يشاهدون صاحبه. ويؤكد العم عبدالله أن ذلك الزمن كان مشبعا بروح التكافل فالقرية كانت أسرة واحدة واقتناء المذياع أسهم في امتلاء البيت بصفة شبه يومية لتفقد الآلة السحرية العجيبة والإصغاء لصوت بدر كريم يعلن أرقام الميزانية زمن الملك فيصل رحمه الله، ووصف أرقام ميزانية تلك الفترة بالمتواضعة مقارنة بميزانيات هذا العام والأعوام التي سبقت إلا أنها تؤمن مصروفات الدولة من الرواتب وبناء مدارس وفتح طرق ومستشفيات، مشيرا إلى أن من يحضر سماع الميزانية يعود ليحدث أهله بما سمع ويجتمع كبار السن أمام الجامع في اليوم التالي مستبشرين بافتتاح مدرسة لأولادهم واعتماد مؤسسة للضمان الاجتماعي وقروض للبنك الزراعي يؤمن لهم بعض احتياجات مزارعهم، مثمنين لآل سعود جهودهم المباركة في خدمة مواطنيهم منذ تم توحيد البلاد تحت راية الملك المؤسس.