الله على ذاك الزمن الذي كانت فيه التلبية (عزفًا) ترقص الأرواح على أنغامِهِ..! لا يزال (يكْتَنُّ) في أذني بعضٌ من بقايا (ضجيج) الحجاج الذي كان يصلنا من خلال المذياع الصغير الملازم ل(جدي) رحمه الله، فلا شيء كان يسعدنا كسماع (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك...) التي يترنم بها واحدٌ ويردد مجموعةٌ من الحجاج خلفه..! يحكي لنا أهل القرية قصة ذلك الفلاح الذي كان خلف ثيرانه يحرث مزرعته، فمر به زمرة من الحجاج يترنمون بالتلبية فأوقف ثيرانه، وركز محراثه، وانطلق معهم ملبيًا دون أن يعلم أحدٌ من أهل بيته، وحينما عاد من الحج سألوه، فأجاب: ما شعرت بنفسي إلا بعد أن انتصف الطريق..! سبحان الله، ما ذاك السحر الذي كان يسري في نفوس الناس بفعل التلبية فيجرهم جرًّا إلى بيت الله الحرام..؟! من منا اليوم تتحرك مشاعره حين يسمع التلبية..؟! القليل القليل، فالأحاسيس أصابها التبلُّد، وسحر التلبية أفسده خبثُ الزمن..! من ضمن مقاصد الحج التي درسناها وسمعناها من الفقهاء أنه يوحِّد الناس فلا فرق بين غنيهم وفقيرهم، وأبيضهم وأسودهم، فهل لا يزال هذا المقصد كما هو أم أنه انتفى بعد أن رأينا من يسكن فيما يضاهي الفنادق ذوات (النجوم الخمس) في قلب منى، ورأينا من يفترش الأرض، ويلهب جسده المنهك لظى (الإسفلت)..؟! كل شيء اختلف، فلا الناس هم الناس، ولا الشعائر هي الشعائر، والكارثة أن التحايل على العبادات أضحى مما يتسم به زمننا الذي نعيشه..! الحج غدا -بالنسبة للبعض- (نزهة) ليس إلا، فخلا من الروحانية والطمأنينة وما تقتضيه (نسكه) من التعب والنصب اللذين بهما ينال الحاج أجره ويعود كيوم ولدته أمه. تحولات عاصرناها في عباداتنا وصلتْ بنا إلى ما نحن عليه، ولا ندري إلى أين ستصلُ بمن سيأتي بعدنا..! محمد جروض السوادي – جدة